مغاربة صافحوا الموت..”مصطفى التويلي” سيرة جندي في المعركة

عند الأزمات فقط ـ كما يقال ـ تظهر حقيقة البطولات والتضحيات المتفجرة من ضمير حي. ومنذ بدأت الجائحة انتشرت حول العالم قصص أبطالها “أطباء جنود” قدموا بلا توان ذروة التضحيات، منهم من قضى نحبه في ساحة المعركة دفاعا عن مرضاهم الذين وضعوا حياتهم أمانة بين أيديهم ووفاء لعهدهم وميثاقهم.

بين هؤلاء الأبطال الذين يتغنى الجميع بمواقفهم وبطولاتهم، جندي مجهول في المغرب لن تجد اسمه في اللوائح الرسمية لجنود وزارة الصحة، لكنه بطل قصة فريدة وملهمة في الآن ذاته تستحق أن تروى وتدون في سجلات التضحيات الكبار للأجيال القادمة.

إنه “مصطفى التويلي” الطبيب المتخصص في الجهاز التنفسي، الذي اختار طواعية في وقت يهرب فيه الكثيرون من الخطر، أن يكون بين أولئك الذين يندفعون نحوه بقوة من أجل إنقاذ الناس، فالرجل لا ينتمي للقطاع العام وله عيادة خاصة بتطوان، لكنه أغلقها والتحق بساحة الوغى (مستشفى سانية الرمل) حيث تستقبل حالات الإصابة بفيروس كورونا.

جنّد الطبيب “التويلي” نفسه منذ تسجيل أولى الإصابات في المملكة، في فبراير الماضي، عندما وضع اسمه في لائحة أطلقها أطباء القطاع الخاص المستعدين للتطوع لدعم إخوتهم المحاربين في المستشفيات العمومية، ولم يكتف بذلك دون التفكير في وسيلة أخرى لدعم زملائه الذين يجمعه بهم وفاؤهم لقسم أدوه جميعا يوم ارتدوا رداءهم العسكري الأبيض ولو تفرقت طرقهم وسبلهم في الحياة، إذ سارع الطبيب المتفاني بمجرد تسجيل أولى الحالات في مدينة تطوان ليعرض استعداده التام لتقديم المساعدة على إدارة مستشفى سانية الرمل التي تعرفه جيدا، فالرجل قضى 16 عاما من حياته طبيبا بهذا المستشفى قبل أن يتقاعد سنة 2018، ويفتح عيادة خاصة.

اتفق التويلي مع إدارة المستشفى أن يشتغل بين ساعتين وثلاث ساعات في الفترات الصباحية فقط، يقدم خلالهما الاستشارات خصوصا أن المستشفى يتوفر على طبيب واحد متخصص الجهاز التنفسي مكلف بإدارة مركز تشخيص داء السل والجهاز التنفسي، علما أنه التخصص المطلوب في جنود الخط الأمامي، لكن بعد تصاعد وتيرة تسجيل حالات الإصابة بكوفيد 19، أغلق عيادته وجند نفسه بدوام كامل ضمن جيش الأطباء بسانية الرمل، شأنه شأن زملائه وكأنه واحد منهم.

منذ 30 مارس الماضي، يشتغل “التويلي” في قسم الإنعاش وخلية الفرز للحالات المحتملة، ويقدم كل الدعم اللازم في إطار تخصصه الذي تصبح الحاجة ملحة له كل يوم أكثر. يقول التويلي لـ”الأيام”: “لا أشعر داخل المستشفى بأني غريب، ونعمل كفريق طبي يقدم المشورة في جميع الحالات”، ويمضي بكل ثقة وعرفان، يؤدي ما عليه حق الأداء ولا يمن بما بذل في سبيل ما يؤمن به.

وداخل مستشفى سانية الرمل يعمل الأطباء كخلية نحل وبطريقة غاية في الدقة مصرين جميعا على الالتزام بنفس القسم، إذ توجد داخله خلية يتولى تدبيرها أطباء عسكريون يستقبلون المرضى المحتملين من مختلف المراكز الصحية، وبعد القيام بتشخيص أولي لحالاتهم يتم إرسالهم للمركز الخاص بكوفيد 19، حيث سيكون باستقبالهم طاقم طبي يتكون من طبيب عام بالإضافة إلى التويلي، وهو المكلف بتقييم حالة المريض وتوجيهه إلى مركز الفحص بالأشعة أو لإجراء التحاليل المخبرية للحسم في مدى الإصابة بنسبة مائة في المائة، وإذا جاءت نتائج التحليل إيجابية يوجه المريض إلى المصلحة المكلفة بالعلاج، وهنا يبرز دور “التويلي” بشكل أكبر ضمن الطاقم الطبي المكلف بمتابعة علاج المصابين.

العجيب في هذا الجندي المجهول أنه يعيش نفس إيقاع أطباء القطاع العام منذ اختار طواعية وعن اقتناع تام أن يكون جنديا في الجيش الأبيض، مما يفرض عليه مكرها البقاء بعيدا عن أسرته، فالرجل لا يخفي أنه يتوقع أن يدون اسمه يوما بين المصابين، ويستلقي كمريض في أي لحظة على أحد الأسرة التي استقبل عليها المرضى بنفسه لأزيد من شهر، حيث يقول: “نعم، نأخذ كل الاحتياطات الممكنة من ألبسة واقية وكمامات، لكن لا تعرف من أين قد يأتيك الفيروس”.

يداوم الطاقم الطبي بمستشفى سانية الرمل على زيارة المرضى مرتين في اليوم، مرة في الصباح ومرة في المساء، ويحرص خلالها ـ يضيف التويلي – على مراقبة نسبة الأكسجين ودقات القلب وتنفس المرضى، لكن “دورنا لا يقتصر فقط على المراقبة الصحية للمرضى، فكثيرا ما يكون علينا الاهتمام أيضا بصحتهم النفسية لأنها الكفيلة بدعمهم لمقاومة المرض ومواصلة رحلة العلاج دون يأس أو إحباط”، وخلال هذه العملية يتناوب الأطباء وعددهم عشرة على مراقبة المرضى، دون أن يمنع ذلك عددا ممن لم تستقر حالتهم بعد من الخضوع لمراقبة طبية لصيقة.

خطة لزيارة الأسرة!

التويلي اليوم يعيش في غرفة بفندق، بعيدا عن دفء أسرته المكونة من زوجة وثلاثة أبناء، لا يزورهم إلا عند الضرورة لسبب ملح، وحينها يبدأ مسارا طويلا من الاستعداد، أشبه بحرب للإنقاذ. يقول عن ذلك: “أعلم أن الفيروس لن يطرق باب منزلي المغلق بإحكام، لذلك ولكي لا أكون أنا من يحمله، أتبنى خطة”، فالمجازفة التي قرر هذا الطبيب خوضها طواعية تتطلب منه تضحيات جسام أقلها بالنسبة إليه هي التضحية بالذات، فأكبر مخاوف رجال ونساء الجيش الأبيض هي أن يوصلوا المرض إلى ذويهم أكثر من أنفسهم.

في اليوم الذي يقرر فيه زيارة أسرته يعود التويلي إلى الفندق فيخلع ملابسه ويأخذ حماما ساخنا، ويفتح خزانته المحمية بإحكام حيث يضع ملابس خصصها فقط لزيارة عائلته، وهي ليست نفس الملابس التي يذهب بها للمستشفى، ثم يقصد منزله والشك بأنه قد يكون حاملا للفيروس يلازمه، لكنه يظل يقوي نفسه في كل مرة بالآية الكريمة: “قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا”، وكل أمله أن يرفع الله عن البشرية هذا الوباء، فيعود لضم صغاره بلا خوف.

لا يعرف التويلي اليوم كيف سيكون الغد ومتى ينتهي الوباء، لكن الأكيد أن الرجل لا يتشدق بالمثاليات وهو الذي نزل بلا تردد ولا تأخر للميدان رغم علمه بخطورة العدو، وظل مصرا بشهادة زملائه على التفاني في عمل لن يتقاضى عليه أجرا بخلافهم، بعد أن أغلق عيادته التي كانت مصدر رزقه، فالتويلي يؤمن أن المهنة التي اختارها تنطوي على تضحية وعبء ومسؤولية، لا على مغانم ومكاسب، وقرر أن يلتزم بمبادئه حتى النهاية، فاختار تحمل أعباء المعركة ضد أكبر عدو يخشاه عالم اليوم، سواء منها الجسدية أو النفسية أو المادية، في وقت اختار فيه زملاؤه في الهيئة الوطنية للطبيبات والأطباء مراسلة رئيس الحكومة لاستفادة المصحات والعيادات الخاصة من الإعفاءات والتسهيلات الضريبية والإجراءات المتعلقة بصندوق الضمان الاجتماعي.

تضحيات هذا الجندي المجهول لا يقدم عليها بالتأكيد إلا الشجعان، فالرجل يتحمل كل يوم البعد عن أبنائه دون أن يسمع منه مرضاه إلا ما يرفع معنوياتهم، ولا يحمل هما للمال في هذه اللحظات الحرجة، إذ يقول: “المسألة المادية في مثل هذه الظروف ثانوية” رغم أنه ليس في غنى عنه فلديه ابن يدرس في الخارج ويعتمد كليا على تمويله، بالإضافة إلى آخر في مستوى البكالوريا وطفل رضيع يحتاجان والدهما ليصرف عليهما، ويضاف إلى كل ذلك تضحيته الطوعية بنفسه للمساهمة في إنقاذ النفوس ومعالجة المصابين والتخفيف من معاناتهم، مما يجعله بحق دون شعارات ولا مبالغات رمزا من رموز البطولة في زمن الكورونا.

مقالات مرتبطة :

اترك تعليق