نور الدين مفتاح يكتب: رؤوس الأفاعي السامة

صحيح أن ما يقع من متابعات قضائية صارمة لا يميز بين الكبار أو الصغار وهذه هي دولة الحق والقانون، وإذا كان هذا مؤشرا إيجابيّا إلا أن الفساد يبقى آفة مغرب يعمل بتفان ليجد له مكانا كلاعب محترم على المستوى الإقليمي والقاري، وهذا ليس محصورا في المؤسسة التشريعية التي هي الحدث اليوم، ولا هو كلام مطلق على عواهنه، فها هي المؤسسة الدستورية الرسمية الموكل إليها موضوع محاربة الفساد والمسماة «الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها» تقول في تقرير لها قدم قبل شهرين ونيف أكثر مما قلناه هنا، وتعتبر أن «النتائج المحققة في مجال مكافحة الفساد غير مرضية، وأن هناك ركودا في ترتيب المغرب الذي يحتل الرتبة التاسعة عربيا والحادية عشرة على الصعيد الإفريقي، بعدما لم يتجاوز معدله على مستوى مؤشر مدركات الفساد 38 من أصل 100 درجة، وأن أهداف الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد لم تتحقق بل وتكاد تكون بعيدة المنال».

نور الدين مفتاح [email protected]

 

 

كان الفقيه في أحد مساجد البادية يحدّث الناس، فأورد في السياق الآية الكريمة: «ظهر الفساد في البر والبحر» وقبل أن يكملها قفز أحد المستمعين ليقول للفقيه: «وحتى في الجبل عندنا نعام آس»! هذه الحكاية الساخرة حدّ البكاء حقيقة ماثلة للعيان في هذا البلد السعيد الذي كان الفساد وراء فقدانه يوما ما لسيادته ودخول المستعمر، وظل الفساد يصول ويجول، قبل حتى أن يقدم وزراء في الحكومة في السبعينات للمحاكمة، ومنهم وزير المالية آنذاك مامون الطاهري ووزير الاقتصاد السابق عبد الكريم لزرق ووزير التجارة والصناعة محمد الجعيدي وكاتب الدولة في الأشغال العمومية والنقل محمد العيماني وغيرهم من الموظفين السامين.

 

الفساد في المغرب ليس مشكلة، ولا ظاهرة، ولا قضيّة يمكن أن تتجند لها فرق الإصلاح لتدحرها، إنه منظومة متكاملة الأضلاع يشد بعضها بعضا، لقد هزمت الكل وأصبحت أخطبوطا عصيا على قطع كل أرجله. هذا واقع يعترف به الجميع، فما الجديد الذي يجعلنا نتباكى في هذه السطور على المعروف والمعلوم؟

 

الجديد هو أن هذا الفساد الذي كان تحت الرماد، ظهرت فجأة ألسنة نيرانه في واحدة من المؤسسات الدستورية الأساسية في النظام السياسي المغربي. الجديد أن «الحوتة» فسدت في محراب الديموقراطية، في البرلمان، وفي المؤسسات التمثيلية الترابية.

 

لقد كانت صدمة ما يسمى باسكوبار الصحراء كبيرة. المتهمان الرئيسيان ليسا شخصين عاديين أو مرتشيين صغيرين، بل كانا صورة بألوان صارخة للسلطة والثروة والجاه، فعبد النبي بعيوي كانت لديه واحدة من أكبر شركات الأشغال العمومية في المغرب، وكان رئيس جهة الشرق وهو منصب يفوق منصب وزير. وسعيد الناصري كان رئيس المجلس الإقليمي للدار البيضاء، وقبلها برلماني وواحد من مليارديرات العاصمة الاقتصادية، ورئيس لواحد من أكبر الأندية الرياضية المغربية، وعضو وازن في جامعة كرة القدم.

 

هؤلاء تجاوزوا الفساد في البر والبحر والجبل ووصلوا إلى السماء. لقد تورطوا مباشرة في الاتجار الدولي في المخدرات! شيء لا يصدق، لذلك كان الذهول وكانت الخيبة.

 

وحتى وإن لم يكن بعيوي والناصري برلمانيان، فإنهما منتخبان، ولذلك أعطى حجم ملفهما الضخم دفعة سوداء لتفجر ملفات فساد أخرى في المؤسسة التشريعية، فهناك اليوم 24 برلمانيا مغربيّا إما في السجن أو ينتظرهم السجن. هذا رقم مخيف لم يسبق أن سجل في دورة نيابية من دورات هذه المؤسسة منذ الاستقلال، وكما ستطلعون بتفصيل مذهل على معطيات هذا الملف في موضوع غلافنا لهذا الأسبوع، فستة بالمائة من البرلمانيين هم إما مدانون أو متهمون في قضايا فساد، منهم 13 نائبا ينتمون للأغلبية و11 ينتمون للمعارضة.

 

ليس جديداً موضوع التلاعب في الانتخابات وشراء الأصوات وسطوة الأعيان. هذا كان معروفا منذ عهد الخرائط الإنتخابية المفبركة للراحل إدريس البصري، ولكن الجديد هذه المرّة أن كبار الفاسدين وأصحاب المصالح كانوا يختبئون وراء ممثلين لهم، ولكن مؤخرا أصبحت عندهم الجرأة ليقتحموا الميدان بأنفسهم، لأنه وجدوا الظرف السياسي مناسبا.

 

لقد كان مطلب إنهاء سيطرة الإسلاميين على الحكومة مُلحا، ودخل بسبب هذا جيش جديد يسمونه جيلا جديدا من الشلاهبية إلى القبة المحترمة مع التحفظ على التعميم. الكثيرون من الأميين والمتاجرين في الممنوعات ومحترفي السمسرة والمتآمرين استطاعوا أن يحصلوا على التزكيات وأن يحصدوا أصواتا بحجم مفاجئ. لقد حصل المتابَعون الآن في قضايا فساد على أكثر من 500 ألف صوت في انتخابات 8 شتنبر، وهو ما يشكل نسبة تقارب الـ 7 في المائة من مجموع الأصوات في هذه الانتخابات. هذه هي صورة الكارثة بكل تجلياتها.

 

لقد قضى هؤلاء ومن زكاهم على مفهوم المناضل، وعلى جدوى البرنامج الانتخابي، وانجرفت الأحزاب بما فيها التقليدية إلى منزلق تزكية الأعيان الجدد لأن المنظومة كانت مهيأة للاكتساح المضاد، وهو ما حصل، وخرج الإسلاميون ديموقراطيا، ولكن الديموقراطية خسرت أحد أهم أعمدتها، وهي مؤسسة تشريعية قادرة على القيام بدورها بكفاءة ومصداقية وإرادة حقيقية للإصلاح.

 

وتجدني أتفق مع ذ. محمد مصباح، مدير المعهد المغربي لتحليل الدراسات عندما يذهب في تحليله بعيدا في الحوار الذي يخص به «الأيام» ويقول إنه: «بالمحصلة، فهذه الدائرة المفرغة تنتج في النهاية مؤسسة تشريعية ضعيفة، فيعمل المشرعون المتحكمون في وضع قوانين تصاغ على المقاس تخدم مصالحهم المباشرة، ويتم الاستيلاء على الدولة starte capture ومقدراتها من طرف منتخبين متورطين في الفساد هدفهم هو حماية مصالحهم، وتتحول هذه المؤسسات إلى خطر على الدولة والاستقرار».

 

نعم، إننا في مواجهة خطر على الدولة والاستقرار وهذه ليست مبالغة، وعلى الغافلين أن يستفيقوا وإلا فإن العاقبة ستكون للفاسدين.

 

صحيح أن ما يقع من متابعات قضائية صارمة لا يميز بين الكبار أو الصغار وهذه هي دولة الحق والقانون، وإذا كان هذا مؤشرا إيجابيّا إلا أن الفساد يبقى آفة مغرب يعمل بتفان ليجد له مكانا كلاعب محترم على المستوى الإقليمي والقاري، وهذا ليس محصورا في المؤسسة التشريعية التي هي الحدث اليوم، ولا هو كلام مطلق على عواهنه، فها هي المؤسسة الدستورية الرسمية الموكل إليها موضوع محاربة الفساد والمسماة «الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها» تقول في تقرير لها قدم قبل شهرين ونيف أكثر مما قلناه هنا، وتعتبر أن «النتائج المحققة في مجال مكافحة الفساد غير مرضية، وأن هناك ركودا في ترتيب المغرب الذي يحتل الرتبة التاسعة عربيا والحادية عشرة على الصعيد الإفريقي، بعدما لم يتجاوز معدله على مستوى مؤشر مدركات الفساد 38 من أصل 100 درجة، وأن أهداف الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد لم تتحقق بل وتكاد تكون بعيدة المنال».

 

هذا ورم خبيث لسرطان انتشر في أكثر من عضو، والكل يتفق على التشخيص، ولكن الكل عاجز أمام آلة خرافية لأكبر حزب اليوم في المغرب وهو حزب الفاسدين الذي لا حاجة بأن تكون له بطاقة تعريف ورقم عند وزارة الداخلية ومكتب سياسي ومؤتمر وفروع. هو يملك فقط شعارا ورمزا، وهذا الرمز هو الجمجمة وهي تتوسط راية سوداء.
هذا خطر داهم على الدولة والمجتمع ويجب أن يكون اليوم هو العدو الأول لمملكة ليس لها من خيار للاستقرار والازدهار إلا قطع رؤوس الأفاعي السامة.

مقالات مرتبطة :
تعليقات الزوار
  1. محمد

    الأخ نور الدين مفتاح.
    تأخرنا كثيرا في إصلاح 68 سنة من الفساد لهذا نحتاج سنوات طويلة لهذا الإصلاح إن كانت هناك عزيمة ، أما إن كان العكس فلا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.

اترك تعليق