استقلالية القرار الحزبي.. كيف ولماذا؟

 

الديمقراطية تتطلب وجود أحزاب قوية باستقلاليتها، واستقلالية القرار الحزبي لا يمكن أن تتأتى إلا عبر ديمقراطية داخلية تعطي رأي الأغلبية داخل التنظيم الواحد مشروعية التقرير.

 

 

لكن ما نلحظه اليوم من ممارسات غير ديمقراطية داخل بعض الأحزاب المغربية يبعث على القلق والاستغراب. حيث لم تعد القيادات تُفرز عبر صناديق الاقتراع وأدوات التنخيب الطبيعي، بقدر ما صارت نتاج ممارسات غريبة يكون فيها القرار آتيا من خارج مؤسسات الحزب السياسي. الأمر يجعلنا في حالات عديدة أمام مشهد “مرشح وحيد” لرئاسة التنظيم السياسي، يتم “تنصيبه” بالتصفيق ورفع الأيادي بدل انتخابه بالاعتماد على آليات الاقتراع السري والتداول.

 

 

إن أي تنظيم سياسي يتمتع بديمقراطية داخلية، ويصدر قراراته بناء على نقاش مستفيض وتداول حر وتصويت شفاف من داخل هياكله ومؤسساته، من حقه ادعاء الاستقلالية. لكن في أحايين كثيرة، ينبغي الحذر من بعض المؤثرات غير المباشرة.

 

 

حيث يمكن للتنظيم السياسي أن يُخضع قضية ما للتداول والنقاش والتصويت، ثم تتأثر هذه الأخيرة، إما بالتعبئة القبلية للأعضاء أو عبر ممارسة مختلف أنواع الضغوط الممكنة عليهم ليعبروا عن موقف غير موقفهم المنسجم مع قناعاتهم الحقيقية، باستعمال مختلف الأساليب، كالتحذير المبالغ فيه من الاصطدام مع السلطة، وما يمكن أن يترتب من تداعيات سلبية على اتخاذ قرار معين (وفِي الغالب تكون هذه التوقعات غير مبنية على مؤشرات موضوعية)، وغيرها من أساليب “الترغيب والترهيب” التي لا يكف أصحابها عن ترويج خطاب يدعو سواء بشكل واضح أو ضمني إلى ضرورة تماهي موقف التنظيم الحزبي مع موقف واختيارات السلطة، حتى وإن كان هذا الموقف يخالف توجهات الحزب واختياراته.

 

 

وهو ما يجعل القرار الحزبي خارج حكم الاستقلالية، كون أنه غير ناتج عن الإرادة الحرة لأعضاء التنظيم، وإنما مرده إلى تدخل قوة قاهرة تقوم بالسلب المعنوي لسلطان الإرادة لدى التنظيم، وترغمه على الاستجابة والخضوع، وعدم إبداء أي نوع من أنواع المقاومة والممانعة والذي لا يصل بالضرورة إلى الاصطدام مع الاختيارات الكبرى للدولة.

 

 

إن الحزب الذي يختار ممارسة السياسة إنطلاقا من “مرجعية ديمقراطية”، تنتصر لقيم الصدق والحرية والعدل والإنصاف، لا يمكن أن يُتصور فيه -نظريا- مساندة جميع اختيارات السلطة وسياساتها، بخيرها وشرها، ولكنه مطالب بإعمال منهج المصارحة والنصيحة وإبداء الرأي، والقول للمحسن أحسنتَ، وللمسيء أسأتَ، انسجاما مع المفهوم الموضوعي والواقعي للمصلحة الوطنية، وليس أي مبرر آخر.

 

 

ومن دواعي القلق والانزعاج أيضا، أن كثيرا من الأحزاب –خاصة العريقة منها- أصابها داء استسهال تزكية بعض المواقف حتى ولو تعارضت مع مبادئها المؤسسة، وذلك بالموازاة مع نزعة أخرى لا تقل خطورة، وهي “النزعة التبريرية” التي تحاول تفسير الوقائع والمواقف بشكل بعيد عن حقيقته في الواقع، وهو ما ينعكس بشكل سلبي على مصداقية وصدقية التنظيمات الحزبية لدى الجمهور ويساهم لا محالة في زعزعة ثقة المواطنين في الأحزاب السياسية.

 

 

صحيح أن التحديات التي تمر منها البلاد في بعض الأحيان، تستوجب من الفاعل السياسي التحلي بأكبر قدر من الحكمة والنضج والصبر والتبصر، والحرص على تغليب المصلحة العليا للوطن، أولا، من خلال التحديد الموضوعي لمفهوم المصلحة الوطنية، وثانيا من خلال الحرص على بناء توافقات تسَع الاختلاف والتعددية والتنوع الفكري والسياسي الواجب توفره في كل بيئة تسعى إلى تعزيز ديمقراطيتها، ومراكمة المكتسبات التي تم ترصيدها في هذا الإطار.

 

 

لكن في نفس الوقت، يجب الانتباه إلى بعض الممارسات التي تستهدف استقلالية القرار الحزبي، بوعي أو بدون وعي، وهي نفس الممارسات التي ساهمت في تحويل أحزاب وطنية عريقة إلى كيانات وظيفية، وهو ما أصاب ديمقراطيتنا الفتية بمجموعة من الأعطاب التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من المشهد الحزبي الراهن.

 

 

إن الدولة القوية تكون أقوى بوجود أحزاب سياسية قوية ومستقلة، تؤطر المواطنين، وتمثلهم، وتعبر عن إرادتهم الحرة، وتعزز ثقتهم في المؤسسات. والأهم من ذلك تدفع الفرد/ المواطن إلى الإيمان بقدرته على المشاركة في صناعة القرار من خلال تصويته الانتخابي على أحزاب سياسية مستقلة لها مواقف واختيارات واضحة، وليس على أدوات وظيفية تابعة.

مقالات مرتبطة :

اترك تعليق