ريحانة… حين يخاف “عبدة الدم” من النساء

“في اليوم الأول الذي قام فيه وكيل الشرطة بإيذائي من أجل أظافري فهمت أن الجمال ليس أمراً مرغوباً في هذا العصر. جمال المنظر، جمال الأفكار والرغبات، الكتابة اليدوية الجميلة، جمال العيون والرؤية، ولا حتى جمال صوتٍ جميل”.

لسبب ما، وجدتني مشدودا بكثير من عجز لهذه الكلمات “المنتصرة” في آخر رسالة بعثت بها ريحانة، “قتيلة الهمجية في إيران”، لأمها قبل لحظات من قتلها… من إعدامها شنقا.  

على بعد خطوات قليلة من المشنقة… من القتل، كانت ريحانة جباري تمسك بأهم مفاتيح الحكاية، بأول خيوط الحرف.

ريحانة جباري، الفتاة الإيرانية التي التحقت قبل أيام قليلة بلائحة قتلى الهمجية الدينية في إيران وأشباه إيران، فهمت قبلنا أن الحرب القديمة لم تسكن قط. أن كل لغات العالم الممكنة لا يمكن أن تتحمل أكثر من مرادفين اثنين… البشاعة فقط، أو كل تراتيل الجمال.

ريحانة… مصممة الديكورات الداخلية للمنازل، انتمت للغات الجمال، لمفردات العالم المستعصية على النصوص القديمة الميتة، لكنها أخطأت.

أخطأت، كما يفعل كل عشاق الجمال عادة، حين لم تتهج حروف الدم الأولى، كلام البشاعات الأصل، حين لم تدرس لغة الهمجية في كتب التتار الجدد المنتشرين على امتداد جغرافيات الخرافة والبشاعة والبؤس.

شابة كانت ريحانة، حين استدرجها عميل مخابرات للنظام الديني الهمجي في إيران إلى شقته، بذريعة تصميم ديكورات داخلية، كي يمارس عليها ببساطة ما تعلمه في سراديب النظام الفاشي، من امتهان للكرامة والجسد. كي يكتب على جسدها نصوص دين يعبد السلطة والدولة أكثر من الله الذي يمارسون الحكم باسمه.

… أخطأت ريحانة.

أخطأت ريحانة لأنه في سجن الدولة الدينية، “شيعية” كانت أم “سنية”، كل البشر سواء “تحت ضرس” الحاكم باسم الله. كل الدولة سجن، وكل البشر في حالة سراح (أو صراخ) مؤقت، كل البشر خراف تساق قرابين لمذابح النظام.

أخطأت ريحانة، لأنها لم تقبل أن يتحول جسدها الجميل إلى مرادف لبشاعة اغتصاب. رفضت أن تمنح جسدها للدولة… لعميل مخابرات الدولة. قاومته… كما يقاوم آلاف الإيرانيين وآلاف المسجونين في ما يسمى بالدول الدينية، عمليات الاغتصاب المزمنة واليومية للحق في الانتماء للإنسانية.

ريحانة التي لم تكمل حينها الــ 19 سنة من العمر قاومت مغتصبها، وقتلته. قتلته كما تستحق البشاعة أن تقتل بدون كثير ألم.

حدث ذلك سنة 2007، كانت القتيلة في الحكاية هي ريحانة، وكان القاتل واحدا من عملاء النظام الإيراني اسمه “مرتضى عبداللالي سرباندي”.

كانت ريحانة في حالة دفاع شرعي، ليس عن النفس فقط، ولكن الأهم من ذلك، حالة دفاع شرعي عن كرامة أمة بكاملها اغتصبها دجالو الدين، وحكمها فقهاء الدم.

حين تنتفض في وجه رموز النظام في دولة دينية مثل إيران، تصبح ببساطة في حكم الخارج عن الجماعة … العاصي لأولي الأمر. وهكذا كان.

خلال كل أطوار محاكمة القتيلة ريحانة، لم يلتفت قضاء “الملالي” قط لحقيقة الدفاع عن النفس. 

خلال كل أطوار المحاكمة، لم يكن النظام الإيراني، كما تفعل كل أنظمة الخرافة والهمجية، يحاكم امرأة… كان يحاكم النساء.

كانوا يقتلون بـ “ريحانة” كل بداية ممكنة لحكاية اسمها الحرية. 

… النساء في بلدان القتل المقدس، هن أصل الحكاية ومبتداها. هن خوف الحاكمين وأرقهم اليومي. هن كل الحدود الفاصلة بين الجمال والبشاعة، بين الانتماء للإنسانية، والاعتقال في سجون الهمجية.

ليست ريحانة وحدها.

النساء اللائي لا يستطعن قيادة سيارة النساء اللائي لا يمكنهن ترك خصلة شعر تستسلم لرعشة ريح، النساء اللائي لا حق لهن في رؤية العالم مباشرة وليس من تحت ستار يغطي كل الوجه، النساء اللائي لا يستطعن الخطو في غياب ذكر، النساء اللائي لا حق لهن حتى في التصويت الصوري على شرذمة الذكور الذين يحكمونهم خدمة وتزلفا  للحاكم باسم الله ، النساء اللائي لا يصلحن لغير النكاح، لعقد النكاح وجهاد النكاح   

النساء اللواتي يتذكرهم العالم في 8 مارس، كي يغسل ضميره منهن، كما تغسل الثياب في آلة تصبين مبرمجة على “غسيل سريع”

… كل النساء قتلن مع ريحانة

وكل الإنسانية نزفت أمام ذات المقصلة، وبحبل ذات المشنقة.

… في إيران، ليست ريحانة آخر القتلى، وليست نهاية الهمجية. في إيران، كما في كثير من دول التأويلات السلطوية للدين، هناك آلاف الشباب في السجون، هناك مئات الصحافيين قيد الاعتقال… في قطر، هناك شاعر لا تذكره “الجزيرة” ولو من باب “الرأي الآخر”، في دول البترودولار المترامية، هناك آلاف الحالات المشابهة التي لا تذكرها تقارير المنظمات الدولية، وتسكت عنها تصريحات الدول المسماة قرفا بالديموقراطية.

في دول البشاعة، برميل النفط أسبق من قتل امرأة، من قتل حلم.

… حين تم تنفيذ حكم الإعدام في “ريحانة” كانت الفتاة الإيرانية تعاني من ارتفاع كبير في درجة الحرارة. والدة ريحانة قالت إن بعض الذين حضروا عملية القتل أخبروها أن جسد ابنتها، نتيجة لارتفاع درجة الحرارة، كان يرقص تحت تأثير المشنقة.

غادرت ريحانة عالم الملالي وعبدة الدم وهي ترقص. ترقص لأنها فهمت أن الرقص انتماء للجمال. رقصت، وتركت لأنظمة الهمجية كل مفردات النحيب.

من آخر الجمل التي خطتها ريحانة لوالدتها، هذه الكلمات المستعصية على كل وصف:

” أنا لا أريد أن أتعفن تحت التراب. لا أريد لعينيّ أو قلبي الشاب أن يتحولوا إلى غبار. توسلي بحيث يتم ترتيب أنه، وبمجرد أن يتم شنقي، يتم أخذ قلبي والكلى والعيون والعظام وأي شيء يمكن زرعه بعيداً عن جسدي ويعطى لشخص يحتاج إليه كهدية. لا أريد أن يعرف المتلقي اسمي، أن يشتري لي باقة ورد، أو حتى يقوم بالدعاء لي”.

هل تفهمون الآن لِم يستعصي على عبدة الدم أن يواجهوا النساء بوجه مكشوف؟

لأن ريحانة، كما كل النساء المحكومات بنصوص القتل، يعرفن جيدا أن قدر العالم الحياة، وأن النساء بدء الحكاية ومنتهاها

أن أصل الحكاية امرأة… وأن من يؤسس لعالمه بنصوص شاحبة تعادي النساء، قدره الموت

قدره الموت… كما قدر ريحانة الحياة.

… في قواميس الجمال التي تنتمي إليها ريحانة، لا مكان لأنصاف اللغات.

في قواميس ريحانة، ليس لنا إلا أن نحب الجمال. وليس أمامنا إلا أن نفصح عن كرهنا لعبدة الدم، مهما كانت لغاتهم، انتماءاتهم … ومهما كانت تأويلاتهم ونصوصهم.

مقالات مرتبطة :

اترك تعليق