تحولت المحاكم الإدارية خلال السنوات الأخيرة (2018 ـ 2024)، إلى فضاء رئيسي لمحاكمة تدبير المنتخبين المحليين، إذ بدا لافتا، خلال هذه الفترة، كيف زادت عدد طلبات العزل الموجهة ضد أعضاء ورؤساء مجالس الجماعات، ما كشف عن أعطاب كثيرة في منظومة الحكامة الترابية بالمغرب.
هذا الأمر يقود إلى طرح أسئلة كثيرة حول تضاعف طلبات العزل التي يقدمها العمال والولاة ضد المنتخبين. فهل ما زال هؤلاء المنتخبون يتمتعون بالاستقلالية؟ هل نحن أمام مرحلة انتقالية لترسيخ الشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة؟ أم أننا بصدد تكريس وصاية إدارية جديدة تضعف مؤسسة المنتخب؟ وهل تسهم هذه القرارات في تعزيز ثقة المواطن بالمؤسسات المنتخبة والقضاء؟ أم أنها ستزيد من هشاشة صورة النخب المحلية وتعمق أزمة الثقة؟
يكشف التقرير الذي أعده المجلس الأعلى للقضاء حول “دور المحاكم الإدارية في محاربة الفساد الإداري”، أن المحكمة الإدارية بالدار البيضاء، على سبيل المثال، سجلت ارتفاع عدد طلبات العزل الموجهة ضد أعضاء ورؤساء المجالس الجماعية بشكل ملحوظ. فقبل ست سنوات لم يكن عدد طلبات العزل التي تقديمها يتجاوز 13 طلبا، لكنه ارتفع إلى 28 في السنة الماضية.
لا تشكل محكمة الدار البيضاء الاستثناء، ففي الرباط تضاعف العدد من 7 طلبات سنة 2018، إلى 13 طلبا سنة 2024، ليصل مجموع الطلبات التي تم تقديمها إلى 60 طلبا خلال ست سنوات. وتضاعف الرقم في فاس بأزيد من ثلاث مرات، إذ انتقل، في ظرف ست سنوات، من 6 طلبات عزل إلى 21 .
وفي المجمل تضاعفت طلبات العزل على الصعيد الوطني، منتقلة من 49 طلبا سنة 2018 إلى 102 في 2024، بمعدل يفوق 60 طلبا سنويا، ليبلغ مجموعها 362 طلبا.
وكما زاد عدد طلبات العزل، ارتفعت الأحكام الصادرة أيضا، حيث قفز مجموع الأحكام من 41 (سنة 2018) إلى 108 (سنة 2024)، أي بنسبة زيادة بلغت 163.4 بالمائة.
ويشير تقرير المجلس الأعلى للقضاء إلى أن هذا الارتفاع، لا يؤشر فقط على زيادة كمية، بل يشكل مؤشرا على تفعيل صارم للقوانين الرامية إلى ضبط أداء المنتخبين، وترسيخ شفافية إدارة الشأن العام، ويؤكد الدور المحوري للقضاء الإداري في حماية المال العام.
في نفس السياق يبدو لافتا أن عمال العمالات والأقاليم كانوا الطرف الأساسي في هذه الإجراءات، حيث قدموا 302 طلب عزل، أي حوالي 48 في المائة من مجموع الطلبات التي تلقتها هذه المحاكم (362 طلبا). وفي هذا الصدد تصدرت المحكمة الإدارية بالدار البيضاء المشهد بـ 84 ملفا، تلتها مراكش بـ 72، ثم الرباط بـ 58. أما آسفي فقد حازت المرتبة الأولى من حيث الأقاليم بـ24 طلبا، في حين اقتصرت بعض الأقاليم على حالة واحدة فقط.
هذا التباين يكشف عن مستويات مختلفة في التتبع والرقابة، كما يؤكد أن المناطق الحضرية ذات الكثافة السكانية والنمو الاقتصادي السريع، مثل الدار البيضاء ومراكش، أكثر عرضة لإجراءات العزل بسبب ضعف الشفافية في تدبير المشاريع العمومية.
أزمة ثقة وحكامة
من جهة أخرى، تكشف هذه الأرقام عن مفارقة أساسية، فبينما تراهن الدولة على اللامركزية والجهوية المتقدمة كخيار استراتيجي، يواجه المنتخبون المحليون موجة متصاعدة من حالات العزل بسبب الفساد وسوء التدبير. هذا التناقض يطرح إشكالات جوهرية حول فعالية آليات الرقابة الحالية، وحدود العامل كممثل للدولة. فهل يعني ارتفاع عدد طلبات العزل التي قدمتها مؤسسة العامل، تحوله إلى ضابط رئيسي لحكامة الشأن المحلي على حساب استقلالية المنتخبين؟
يدفع ذلك أيضا إلى التساؤل حول مصداقية النخب المحلية، وقدرة المنظومة القانونية على ضمان التوازن بين الرقابة وحماية التجربة الديمقراطية المحلية؟
يرى البعض في هذه القرارات خطوة نحو تكريس الشفافية، فيما يعتبرها آخرون انعكاسا لهشاشة التجربة الجماعية وصعوبة تنزيل مبادئ الحكامة الجيدة على أرض الواقع. لكن، ما هي الممارسات التي اعتبرها القضاء إخلالا جسيما بالحكامة، وبالتالي الحكم بعزل المنتخبين المحليين المتهمين؟
أسباب العزل
تكشف المعطيات القضائية أن قرارات العزل طالت المنتخبين المحليين بسبب مجموعة واسعة من الممارسات غير القانونية.
من بين المخالفات التي رصدها التقرير، مخالفات التعمير (منح رخص غير قانونية، توقيع اتفاقيات مخالفة للتصاميم). إضافة إلى سوء التدبير المالي (استهلاك غير مبرر للموارد، تفويت مداخيل الجماعة بطرق مشبوهة). أو تضارب المصالح (رؤساء وأعضاء وقعوا عقودا مع شركات يمتلكون حصصا فيها أو تربطهم بأصحابها علاقات قرابة). ناهيك عن الإخلالات التنظيمية (التلاعب في التوظيف، توقيع عقود دون سند قانوني، استغلال النفوذ)…
وأظهرت المحاكم الإدارية تشددا حتى في ما يبدو مسائل إجرائية، مثل احترام مساطر الجباية أو مسك السجلات. واعتبر القضاء أن سوء التدبير يوازي في خطورته الاختلاس المباشر، لأنه يفتح الباب للهدر والزبونية، وقضى بعزل رؤساء مجالس بسبب سوء استخلاص الرسوم أو مخالفة القواعد المحاسباتية، وأخرى بسبب تمرير صفقات دون احترام المنافسة أو الدراسات التقنية. كما رصدت حالات لتجزئة الصفقات عمدا لتفادي المساطر القانونية، ومنح امتيازات لشركات بعلاقة مباشرة بالرئيس أو أقاربه.
وفي حالات أخرى، امتد العزل أيضا إلى مجالات مرتبطة بتدبير الموارد البشرية. فقد عزل منتخبون تبث تورطهم في توظيف أقاربهم أو التلاعب في المناصب، واعتبر ذلك ضربا لمبدأ تكافؤ الفرص. وسجلت كذلك قضايا تتعلق بعدم الدفاع عن مصالح الجماعة أمام القضاء، ما ألحق خسائر كبيرة بالمال العام.
كما أدانت المحاكم بعض المنتخبين وقضت بعزلهم، بسبب تورطهم في ممارسات غير قانونية كحجب الوثائق، أو التلاعب بالسجلات، أو إدخال المجالس في صراعات شخصية.
هذه الانزلاقات، رغم أنها قد تبدو “صغيرة”، صنفت كمساس مباشر بوقار المؤسسات المنتخبة. بل إن بعض المحاكم اعتبرت أن تبادل التهم والتراشق اللفظي داخل جلسات المجالس بشكل يخل بوقار المؤسسة المنتخبة، من الأسباب الموجبة للعزل.
أكثر من خطأ إداري
حسب التقرير، شكل قطاع التعمير أحد أبرز مصادر القرارات القضائية بالعزل، نظرا لما يحمله من رهانات اقتصادية ضخمة. ورصدت المحاكم سلسلة من المخالفات تتراوح بين إصدار رخص بناء أو إصلاح غير مطابقة للقانون، والامتناع عن تطبيق المقتضيات التنظيمية، ومنح تراخيص استثنائية دون الرجوع إلى المساطر القانونية. كما طالت القرارات حالات تتعلق بتسليم رخص غير قانونية لمشاريع كبرى، أو رفض إصلاح مخالفات قائمة رغم صدور تقارير تقنية تثبت الاختلالات.
وفي هذا الصدد، شددت محكمة النقض على أن هذه التجاوزات ليست مجرد “أخطاء إدارية”، بل تهديد مباشر لحقوق الساكنة وجودة العيش، ما يبرر التدخل الصارم عبر آلية العزل.
إلى جانب ذلك، سجلت خروقات مرتبطة بتضارب المصالح، حيث تم ربط مصالح شخصية أو عائلية بمشاريع عقارية للجماعة، إضافة إلى مخالفات تخص إحداث تجزئات غير قانونية أو استغلال الأراضي الجماعية بشكل مخالف للتشريعات. وفي حالات أخرى، تم تسجيل التقصير في تتبع الأشغال أو التواطؤ مع منعشين عقاريين بما يضر بالمنفعة العامة.
هذا التوجه القضائي عكس – وفق التقرير – حرص المحاكم الإدارية ومحكمة النقض على إرساء مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة في مجال حساس كالتهيئة والتعمير، باعتباره مجالا تتقاطع فيه رهانات التنمية الحضرية مع مصالح اقتصادية ضخمة، وغالبا ما يكون مجالا خصبا للتجاوزات التي تمس حقوق الساكنة وجودة العيش. وهو ما يجعل العزل وسيلة ردعية تروم حماية المجال الترابي من التلاعبات، ورسالة واضحة بأن المصالح العمومية مقدّمة على أي اعتبارات سياسية أو شخصية.
تضارب المصالح
لم يحصر القضاء الإداري قرارات العزل في مجالات التعمير أو الجبايات، بل امتدت لتشمل أيضا الصفقات العمومية باعتبارها من أكثر القطاعات عرضة للتجاوزات. فقد عزلت محكمة النقض عددا من المنتخبين بسبب إبرام صفقات دون احترام المساطر القانونية، مثل غياب المنافسة أو عدم فتح الأظرفة وفق الضوابط، أو منح الامتيازات لشركات بعينها دون مبرر موضوعي. كما رصدت حالات إسناد صفقات بناء أو تجهيز لمقاولات بعلاقة مباشرة بالرئيس أو أحد أعضاء المجلس، وهو ما اعتبرته المحاكم تضاربا صارخا في المصالح.
ومن بين المخالفات التي بررت العزل أيضا: تجزئة الصفقات لتفادي المساطر القانونية، وإبرام اتفاقيات خدمات أو توريدات دون تحديد شروط دقيقة، وإغفال المراقبة التقنية للأشغال، مما أدى إلى تنفيذ مشاريع غير مطابقة للمواصفات. كما أدانت المحاكم غياب التتبع والمراقبة الفعلية، حيث تحولت بعض الصفقات إلى وسيلة لاستنزاف المال العام بدل أن تكون أداة لتجويد الخدمات.
