هشام المكي يكتب: حكاية الذكي الذي يعرف متى ستنكسر المرآة…

 

يستخدم أبي طريقة خاصة في إنجاز أعمال الإصلاحات المنزلية، ورغم أن البعض قد يجدها طريقة غريبة، ورغم أنها كانت في أحيان كثيرة مزعجة لي، إلا أنها أفادتني في نهاية المطاف.. وتقوم طريقته تلك على ثلاثة مبادئ:

المبدأ الأول: الهدوء أمر مزعج ويقلل من الحماس ويعيق إنجاز الأعمال؛ لذا من النادر أن يطلب مني أن أمرر له مفكا أو أي أداة يحتاجها بصوت هادئ، حتى ولو كانت تلك أول جملة يبدأ بها عمله، لذا أجده يطلبها بصوت مرتفع وغاضب حتى وإن لم يوجد أي سبب واضح ليغضب… فكرت لاحقا أنها قد تكون طريقته الخاصة لإضفاء الحماس على العمل.

المبدأ الثاني: يمكن لمساعدك سماع صوت تفكيرك! إذ يعاتبنا في أحيان كثيرة على أننا ننظر إليه وهو يوشك على الانتقال إلى مرحلة ثانية في الإنجاز ولم نزوده بعد بما يحتاجه من أدوات في تلك المرحلة. إذ ينبغي علينا أن نتوقع لوحدنا ما سوف يقوم به، وما سوف يحتاجه أثناء ذلك، ونمرره له قبل أن يطلبه منا.

المبدأ الثالث: على المساعد أن يمتلك سرعة الضوء! إذ يتوقع أبي أنه بمجرد أن ينهي جملة: “هات المطرقة”، ينبغي أن تكون يدي ممدودة إليه بالمطرقة! زمن البحث عنها هو فراغ غير منتج وانتظار مزعج لا يتحمله… ولا أدري كيف سيتحقق ذلك؟ ربما كنت أحتاج حينها إلى ابتكار حزام خاص أعلق عليه جميع الأدوات أو إلى تعيين مساعدٍ للمساعد.

وما زلت أتذكر قصة طريفة تعود إلى مرحلة تعليمي الثانوي: كنت أساعده في تركيب خزانة ملابس رفقة سعيد ابن الجيران؛ وتعرفون خصوصيات مرحلة المراهقة، حيث يمتاز المراهق بميزات رائعة من بينها أنه ذكي وعبقري لكنه يعجز دوما عن إيجاد المنطق فيما يقوله أو يفعله الكبار، والميزة الأخرى أنه شخص مهم يستحق درجة عالية من التقدير والاحترام، وبالتالي هو عديم الصبر وسريع الانفعال…

لذا ما إن انطلق العمل، حتى بدأت أنزعج من طريقة أبي ذات الإيقاع السريع، وأوامره الصارمة، ولومه الدائم… وحينما بدأ في تركيب الدفة الوسطى التي تحمل مرآة، وفي إصلاح قفلها.. أدركت بسرعة أنه سيكسر المرآة.. وأذكر أنني قمت بتصرف غريب حينها.. حيث تراجعت بهدوء إلى الخلف، وتركت سعيدا يساعده، وبدأت أنتظر باستمتاع لحظة انكسار المرآة.. وما إن انكسرت، حتى أعلنت بزهو: كنت أعلم بأنها سوف تنكسر.. ورغم أن سعيدا عاتبني بصدق عن عدم تنبيهي لهم، إلا أنني كنت مزهوا بما حدث! ربما كنت أعتبرها لحظة نصر تثبت أن توقعاتي كانت صائبة، وأنه كان يجدر بهم الانتباه إليوالإنصات إلى نصائحي؛ أو ربما كانت لحظة تعويض أثأر بها لكرامتي التي أهانها الصراخ المستمر، والتجاهل الممنهج لآرائي واقتراحاتي الوجيهة في العمل..

 

وبعد سنوات طوال، وإلى حدود الآن، مازال والدي الحبيب يدير أعماله بنفس الطريقة، لكن حدتها تخف كثيرا بوجود أحفاده إلى جواره؛ والفرق أنني أصبحت أحبه أكثر، وأستمتع بالوجود إلى جانبه وملاحظته وهو يشتغل، وأنني اكتشفت أيضا أنه دربني وجعلني بطريقته الخاصة أكثر دقة وإتقانا في تنفيذ الأعمال، بل أصبحت أستطيع فعلا توقع الخطوة المقبلة، فأستعد لها بتجهيز الأدوات المناسبة… ولعل المضحك في الأمر، أنني أصبحت مثله في الغالب؛ أتوقع من مساعدي أن يسايرني في نفس الإيقاع السريع للعمل!

وليس ذلك ما تعلمته فقط؛ إذ اكتشفت أيضا أنني أصبحت مجبرا على أن أعيش لحظة انكسار المرآة مرارا وتكرارا؛ وأنني باعتباري باحثا يعشق التعلم والمعرفة وتحليل الظواهر ويحب وطنه أيضا، علي أن أتحمل تجاهل المؤسسات وتجهيلها لي ولغيري من المثقفين، وأن أتحمل صراخ صانعي القرار والمسؤولين الذي يأخذ أشكالا رمزية مختلفة، وأن أعود نفسي على أن أتقبل بهدوء جحيم الوعي بالمآلات السيئة لما يتم اتخاذه من قرارات وسياسات، ومن بوادر فشل واضحة في لحظات الانطلاق؛ وأن أجلس بهدوء لأتأمل المشاكل والأزمات وهي تولد صغيرة وبسيطة، وتتشكل أمام ناظري وتتقوى تدريجيا، إلى أن تصبح مشاكل معقدة ومركبة تستعصي عن الحل، أو يجر حلها خسائر وأضرارا جانبية فادحة.

لهذا أعلن أنني سأستمتع بالصمت، وسأسلي نفسي بمتعة امتلاكي لمهارة التنبؤ بالمرايا الكثيرة التي انكسرت، وبالمرايا الأخرى التي توشك على الانكسار:

– كنت أعلم أن تفكيك حي شعبي يعد بؤرة إجرام في مدينتي الأم، يتطلب تدرجا وحكمة، وأن الطريقة التي تم بها ذلك، ستعمم فقط الظواهر الإجرامية على باقي الأحياء المسالمة، وقد صدق ما توقعت!

– وكنت أعلم أن المبالغة في حفر الآبار واستصلاح الأراضي في محيط مدينتي الأم، من طرف المستثمرين عوض الفلاحين البسطاء، يشكل استنزافا غير ضروري للفرشة المائية، وقد عاشت المدينة ومازالت أزمات مياه حرجة؛

– وكنت أعلم أن رفع اليد عن التعليم العمومي، وإغراقه بإصلاحات شكلية متوالية، سينتج جيلا يفتقر إلى الثقافة بمعناها العام، ويجهل آداب السلوك والفضاء العام، ويكفي أن تقوم بجولة في محيط مؤسسة تعليمية لتشاهد بنفسك وتسمع أيضا!

– وكنت أدرك أن إهمال الشباب وضعف الاستثمار في تأهيلهم، وتحيز الإعلام العمومي لنماذج وصور نمطية بعينها، والاقتصار على المقاربة الأمنية في مواجهة ظواهر العنف؛ سيؤدي فقط إلى تعميم الإجرام وتشجيعه وقد أصبح أمره مستفحلا…

أما المرايا التي أنتظر بأسى لحظات انكسارها فهي كثيرة، من بينها:

– السياسات الفلاحية الفاشلة التي ستوصلنا إلى فقدان أمننا الغذائي بالاعتماد الكلي على البذور المهجنة، والقضاء الممنهج على البذور والثمار الأصيلة، وفقدان السلالات المغربية في المواشي والدواجن؛

– السياسات المائية التي ما زالت تراهن على غسل الأواني في أحواض بلاستيكية عوض استعمال الصنبور، وتغلق الحمامات الشعبية من حين لآخر؛ بدل أن تستجيب بما يليق للتوجيه الملكي، وتحول أزمة المياه إلى أولوية وطنية، وتعيد النظر في توجهات التصنيع والتصدير الفلاحي اللذان يخفيان هدرا غير مبرر في غياب استراتيجية حقيقية لترشيد استعمال المياه؛

– السياسات الإعلامية التي تهدم القُدوات وتنشر نماذج مميعة وتسوق مفاهيم زائفة عن النجاح لشبابنا، وتنتهك ستر الحياء بجرأة سافرة، تهدد بتفكيك ما تبقى من مقومات الأسرة المغربية وقيمها، وبإحباط لاحق لشبابنا؛

إن قائمة المرايا التي تنتظر دورها لتنكسر طويلة جدا مع الأسف؛ من مرآة التطبيع الذي يحمل معه خسائر كثيرة على مستويات حماية الثقافة المغربية الحقيقية والتماسك المجتمعي والأمن الغذائي والاستقرار السياسي؛ إلى مرآة الثقافة التي تتراجع يوميا باختفاء الأكشاك والمكتبات وتحويلها إلى محلات بيع الوجبات السريعة في رمزية سوريالية صادمة؛ مرورا بمرآة الجامعة التي تنسلخ يوما بعد يوم عن قيمها وعن هويتها البحثية لتتحول إلى مجرد مصنع يزود سوق الشغل بعمال بلا ثقافة متينة ولا قيم؛وصولاإلى مرآة الفضاء العام الذي ينسلخ يوميا من القيم الجماعية ويتوزع بين شباب بذيء يستمد من الأعضاء الجنسية قاموسه اليومي بشكل سمجوبين كِبار من الجيل السابق تقودهم الأنانية والوقاحة…

الفرق الوحيد بين أول مرآة انكسرت، وبين كل المرايا التي انكسرت بعدها وتلك التي تنتظر دورها… هو أنني فضلت الصمت طوعا مع المرآة الأولى؛ وتعودته مجبرا مع باقي المرايا، أمام استعلاء المسؤولين، وتجاهلهم لصوت الصحافة الحرة وتوصيات البحث العلمي؛ وأمام عدم وجود قنوات مؤسسية تحتضن الاقتراح والتحذير، وتترجمهما إلى سياسات فعلية تنصت إلى صوت العقل، وتلك أيضا مرآة أخرى متشظية!

هذه ليست قصتي مع مرآة انكسرت، بل هي متلازمة انتظار انكسار المرآة؛ وهي متلازمة نفسية يعيشها كثير من الشرفاء والعارفين في هذا الزمن الصعب…

حفظ الله لكم آباءكم والوطن!

مقالات مرتبطة :

اترك تعليق