يوسف مسفيوي
لم يعد الهامش ذلك الفضاء البعيد عن المركز، ولا هو مجرد مقابلة بين الجبل والمدينة. اليوم، تغيّرت التضاريس الرمزية والاجتماعية: صار الهامش يتخفّى داخل المدينة ذاتها، يتوزّع بين أطرافها ومراكزها، ليصير “وسط المدينة المهمَّش” واقعا لا مجازا.
هناك، في زوايا هذا الهامش الحديث، تتشكّل الحقيقة في صمتٍ مدوٍّ. رجلٌ يكتري غرفة صغيرة تقيه حر الصيف وبرد الشتاء، لا يطلب من الحياة سوى البقاء ليومٍ آخر. يعمل فقط ليضمن قوت يومه، يوم لا يمتد ولا يتصل بشيء. أستاذ في مدرسة خصوصية، يتقاضى أجرا هزيلا حدّ الخجل، حدّ أن تتبلل العين، لا من الحزن بل من الإهانة.
يتخيل أحيانا أن العمل في ملهى ليلي كان ليكون أفضل، فهناك على الأقل يتساوى الجميع في مفهوم مبسّط للسعادة: تجنّب الألم، أو على الأقل تأجيله. أما هنا، في واقعه، فالسعادة مؤجّلة إلى أجل غير مسمى، مدفونة تحت وطأة عبارة تترنّح بين السخرية والمرارة: “دير لي بغيت، المهم شكارتك تكون عامرة”.
هكذا يُختصر المشروع المجتمعي بأكمله في مبدأ نفعوي فجّ، بلا أخلاق، بلا أفق.
هذا ما جرّه إلى عزلة مريرة، ليست نابعة من اختيار حُر، بل من عجز عميق عن الفعل. إنها عدم القدرة على الفعل، لا الرغبة في الامتناع. الخوف يُكبّله؛ خوف من الانتقال من مؤسسة التعليم، حيث يُستهلك روحه، إلى مؤسسات العقاب كما صوّرها ميشيل فوكو بدقة تشريحية.
جسد يمضي مثقلا بالحزن، بانفعالات يثيرها وعي متضخم بالشقاء. كأنه يعيش عزاءً قبل الأوان، وموتا سابقا لأجله. يتحرك كما الحمار الذي لا يعرف لماذا يتحرك، إلا أن حركة ما تُجبره على المضي.
الأزمة لم تعد اقتصادية فحسب، بل صارت سياسية-جسدية. لقد صار الجسد نفسه ساحة للصراع، ساحة للذاكرة وللألم. يحمل داخله صورًا باهتة لأحلام صغيرة: غرفة دافئة، امرأة تشاركه الحياة، حمّام ساخن… صار اللاشيء شيئًا يُفكَّر فيه، وتحوّلت أبسط مقومات الكرامة إلى أحلام بعيدة المنال.
هذا نص من قلب الهامش، من ذلك المكان الذي لا يُرى، ولكن فيه وحده، تُصاغ الحقيقة.
مقال جَميل، معبِّر.
يوسف مسفيوي صديق الطفولة و الموبديع الميدلتي
في العمق / مقال رائع
تحياتي سي يوسف