نور الدين مفتاح يكتب: أَوْجَاعٌ للتَّوْقِير
قالت: هل تعبت؟ قال: وهل في هذه الدنيا غير التعب؟ قالت: نعم، فيها ما بسببه يخاف الناس الموت، فيها خيوط الفجر وسحر الابتسامات ودفء الصدق وخوارق الحب. قال: ولكنها الدنيا تدور كالأرض حول الشمس، ليس هناك فجر أبداً يشبه الذي سبقه، أحيانا يكون من روائع الكون، وأحيانا يكون قمة عذاب […]
قالت: هل تعبت؟
قال: وهل في هذه الدنيا غير التعب؟
قالت: نعم، فيها ما بسببه يخاف الناس الموت،
فيها خيوط الفجر وسحر الابتسامات ودفء الصدق وخوارق الحب.
قال: ولكنها الدنيا تدور كالأرض حول الشمس، ليس هناك فجر أبداً يشبه الذي سبقه، أحيانا يكون من روائع الكون، وأحيانا يكون قمة عذاب بعد ليلة أرق وقِسي وزدِي.
قالت: هذه السوداوية تخيفني، ادخر يومك الأبيض ليومك الأسود.
قال: في الحياة الأمور أعقد من مجرد معادلة اقتصادية، في الدنيا لابد من شروط أكبر من الفرد ليتحقق الحد الأدنى لنمو التفاؤل، ولهذا كانت المجتمعات وأبدعت أشكال التدبير المشترك. اليوم حتى وإن بنيت حولك بيتا منعزلا لتتملّى بالجميل، فكن متأكدا أن الأيادي ستصل إليك في عزلتك لتنثر عليك كل فظاعات العالم. ألم يقل ماكلوهان إن العالم أصبح قرية صغيرة؟ كان هذا قبل عقود، اليوم يجب أن نقول إن العالم محشور في غرفة ضيقة، والصراخ لا يتوقف والفظاعات لها موعد على رأس الساعة.
قالت: عموماً التشاؤم غير منتج.
قال: وهل إنكار الواقع منتج؟ ألا تحسين بهذا التناقض الفظيع الذي يمزّق العالم، فبقدر ما نحصد ثمرات ما أنتجه العلم على مدى قرون في شكل ثورة تكنولوجية غير مسبوقة، بقدر ما نعمل على تدمير هذا الكوكب الذي يجمعنا كما لم نفعل من قبل، ونزحف زحفاً إلى الماضي الكئيب حيث القوي يأكل الضعيف، وفي كل الجبهات نخسر معركة القيم.
قالت: وهل أنت مسؤول عن كل هذا؟
قال: المسؤول في اللغة الذي يجب أن يُسأل عما يفعل، وأنا أسائل هذا الواقع الذي تتحول فيه الأغلبية التي لا تتحمل المسؤولية إلى ضحية، ضحية الحروب، ضحية الفوارق، ضحية الفقر، ضحية الجريمة المنظمة، ضحية الاستلاب، ضحية فقدان العالم لروحه رويداً رويداً.
الأب الذي ينام جائعا بجانب أبنائه في خيمة، ثم يجد في الصباح أنه الناجي الوحيد من قصف إسرائيلي غاشم حوّل أسرته في غزة إلى أشلاء ليس مسؤولا عن هذه الحرب، ولكنه جزء من واحدة من أكبر الجرائم في التاريخ. فهل كنا نتصور أن يقبل العالم أن تبنى جدران الحصار على مليونين ونصف المليون من الغزيين لمدة 60 يوماً إلى الآن، فلا تدخل قطرة ماء ولا حبّة دواء ولا كسرة خبز!!
بل الأدهى أننا لم نعد أمام عالم متفرج بل عالم غربيّ يعطينا الدروس في الحضارة ويشجع حكومة يمينية متطرفة على المزيد من القتل والتجويع رغم أنف المحكمة الجنائية الدولية والقوانين الدولية والإنسانية، والشرائع السماوية والحس الإنساني السليم.
قالت: ولكن، نحن لسنا في حرب!
قال: الظلم حرب على الجميع. وبغض النظر عن هذا فقد أرسل المغرب جنوده من القوات المسلحة الملكية إلى الجولان في الحرب مع إسرائيل سنة 1973. صحيح أن الظروف تغيرت 180 درجة، ولكن هذه الحرب على غزة التي لم يكن لها شبيه في فظاعتها أحسها حربا عليّ كإنسان قبل أن أكون مغربيا عربيا أمازيغيا مسلما إفريقيا! هي حرب تكشف عالما جديداً بلا حدود أخلاقية، وعموماً من يصفق اليوم في العالم للقويّ الجبّار اتقاء لشره لا يجب أن يبكي غدا إذا جاء الدور عليه.
ودعيني أقول لك أن ما يحز في نفسي هو أن يحول البعض التضامن مع القضية الفلسطينية إلى سجال سياسي داخلي. هذا من أغرب التحولات التي تجعل الإنسان يفقد البوصلة. لقد كانت فلسطين في عز الخلافات السياسية الداخلية في الستينيات والسبعينيات تجمع المتفرقين، ويكفي أن نلقي نظرة على مؤسسي الجمعية المغربية لمساندة كفاح الشعب الفلسطيني لنقف على ذلك، حيث اجتمعت حينها ما كان يعرف بالأحزاب الإدارية والأحزاب اليسارية والوطنية على قضية اعتبروها آنذاك قضية وطنية. واليوم وللأسف، نحن لم نرسل جنودا هناك وليس مطلوبا منا ذلك، ورغم هذا نقف على لغط كبير في مواقع التصادم الاجتماعي بخصوص مسألة محسومة بالقانون الدولي وأحكام المحاكم الدولية، وهي قضية ليست ملكية لا لخوانجي ولا لحداثي ولا لعروبي ولا لأمازيغي. هي قضية إنسانية بالدرجة الأولى ونحن تحتها نتحلق حول نيران الخلاف من أجل التناقر والتقافز.
قالت: حالتك ميؤوس منها.. وضحكت!
قال: أنتِ بدأتِ بتقليب المواجع.
قالت: المواجع لا تحتاج لتقليب كي تؤلم.
قال: ولكن هناك فرق بين ألم وألم، واحد لا يحتاج إلا حبة أسبرين كي يرحل، وآخر لا يرضى لجمع حقائبه إلا بالمورفين. سنطالب يوما بتوقير الوجع، خصوصا وأن لا أحد منّا معفى من هذا الضيف المقيم مع اختلاف في المصدر والهوية. واحد فقط لا يتوجع وهو الذي يوجد ضميره في عطلة، والمشكلة أن هؤلاء لا يكتفون بأنفسهم ولا بالإحتفاء برفاهية عافيتهم، بل تجدهم في كل ركن يخططون، ويدلسون، ويتآمرون، ويعتدون ويأكلون حقوق الناس بالباطل، وأحيانا يدمرون حيوات ويبيعون أنفسهم للشيطان، هؤلاء تجدهم في كل القطاعات التي تكاد تتحول إلى إقطاعيّات. هؤلاء بالضبط هم من يحجبون جزءاً من جمال الكون وروعة الحياة.
قالت: ولكنهم ليسوا أكبر من الخالق.
قـــــال: حاشا! ولكنهم من شر ما خلق، وهؤلاء ليسوا سببا في انكسارات لأشخاص أو مجموعات، بل إنهم أصبحوا منظومة تلتهم الجهاز التنفسي للمجتمع، يحرضون بالباطل على الشرفاء، ويستحوذون على المقدرات المادية والمعنوية على وجه الخصوص، ويسرقون الخطاب ويتلبسون القيم نفاقاً، وينصبون الكمائن ويصرون على أن يكون المجتمع ضحية، وبعدها يتهمون الضحايا بأنهم الجناة، وهذه الألاعيب أصبحت عنوانا للسياسة والثقافة والاقتصاد والإعلام والتربية، اللهم إلا ما رحم ربّك. وضاعت معهم العدالة الاجتماعية وضاع معهم الإنصاف.
قالت: ألم تكن هذه هي السُّنة في التاريخ.
قــــال: بلى، ولكنها اليوم أفظع، فقد تسيّد الأراذل، ووصلت الأمور إلى حدود الدناءة، وخلقت التفاهة جيلا جديدا من الانتهازيين لا أعتقد أنه كانت له سوابق في التاريخ، والغريب أن الفاسدين في كل القطاعات أصبحت لهم منابر وعظ وإرشاد يتلون فيها كلمات محنطة وجُملا بلا روح، فكيف تدعوني يا أُخيّة إلى البيضاوية بدل السوداوية؟
قالت: أرى أنك استسلمت.
قـــال: أنتِ قلت من قبل إننا لسنا في حرب، وها أنت تستعملين المصطلحات العسكرية.. ههه! الأمر ليس فيه استسلام، ولكنه احتجاج وإعلان لعدم المشاركة في الجريمة، أحيانا يكون فعل لا شيء هو الشيء الصحيح الذي يجب فعله كما يقول المثل. ولكن الذي أنا متأكد منه هو أن الصعاليك لا يصنعون التاريخ، إنهم يشوشون وأحيانا يكتبون بعض الحلقات ولكن في النهاية يكون مصيرهم هو مزبلة هذا التاريخ.
قالت: أنت عالَم..
قـــــال: وأنت عوالم.
ضحكا ثم صمتا صمتاً أبلغ من الكلمات.