يجد حزب العدالة والتنمية، الذي طالما تفاخر بموقعه الريادي في المشهد السياسي المغربي، نفسه اليوم في مواجهة أزمة مالية خانقة تكشف عن واقع داخلي لا يتناسب مع التصريحات المطمئنة التي يطلقها عبد الإله بنكيران، الأمين العام للحزب.
ففي الوقت الذي يصرح فيه بنكيران أن الحزب “بصحة جيدة” وأنه يسير نحو مؤتمر هادئ وطبيعي، تتناقض هذه التصريحات مع الحقيقة المرة التي كشف عنها عدم قدرة الحزب على جمع 130 مليون سنتيم، المبلغ الذي كان من المفترض أن يغطي ما علق من تكاليف مؤتمر الحزب الوطني التاسع.
فالحزب الذي كان يُنظر إليه باعتباره الحزب الأكثر تنظيما وقوة تأثير في الساحة السياسية المغربية، يجد نفسه اليوم عاجزا عن تعبئة أعضائه لدعم مؤتمرهم الوطني.
وهو الأمر الذي لا يمكن أن يكون مجرد صدفة أو خلل عابر، بحيث إن عدم قدرة الحزب على جمع هذا المبلغ -رغم أنه يملك أكثر من 20 ألف عضو- يكشف عن حالة تنظيمية مترهلة، عن ضعف حقيقي في الهيكلة الداخلية، وعن تراجع ملحوظ في الروح الحزبية التي كانت تميز الحزب في الماضي.
فأين ذهب ذلك الحماس الجماهيري الذي كان يدفع الأعضاء للتبرع بكل ما أوتوا من قوة؟ ولماذا لا يُلبي الأعضاء النداء الآن كما كان الحال في السابق؟ وهل هي بداية نهاية المجد التنظيمي للحزب الذي كان يسيطر على أكبر المدن المغربية؟ هذه أسئلة يجب أن يواجهها بنكيران اليوم بكامل الصراحة والوضوح.
حالة انسحاب داخلي
ربما لا يكون الحديث عن ضعف الحزب مجرد شعارات أو دعايات يطلقها خصوم سياسيون، بل قد يكون تعبيرا عن واقع من الانسحاب البطيء من الالتزام الحزبي، من الدعم المالي، ومن المساهمة في الحملة الانتخابية، بل وحتى من الفكرة نفسها.
فقد كان الحزب يعتمد في الماضي على قدراته التنظيمية الكبيرة، وكان يُعتبر أحد أبرز القوى السياسية القادرة على استقطاب الدعم الشعبي والمالي. لكن اليوم، في ظل أزمة مالية خانقة وفتور في الحماس الداخلي، أصبحنا أمام واقع مختلف: فالحزب الذي كان يمتلئ بالطاقات الشابة والعقول النيرة، أصبح يعاني من انسحاب تدريجي لمؤيديه وقبلها قياداته التاريخية.
رسائل بنكيران
حتى في تصريحاته، لا يخفي بنكيران أزمة الحزب الحقيقية. فالحديث عن أزمة مالية، وحالة عدم تجاوب وزارة الداخلية مع الحزب فيما يخص الدعم العمومي، لا يعكس سوى صورة حزب يواجه صعوبات في القدرة على التأثير في الأعضاء والمتعاطفين. وحين يفتح بنكيران حسابا بنكيا لجمع التبرعات، فإنه يوجه رسالة غير مباشرة إلى أعضائه، مفادها أن الحزب يواجه اختبارا حقيقيا في قدرته على الاستمرار.
فهل كان من الممكن تصور ذلك في أيام العز والسلطة؟ بل أكثر من ذلك، هل يحق لبنكيران أن يتحدث عن “تعافي تنظيمي” بينما الحزب يطرق أبواب التبرعات؟ هل هذه هي الصورة التي يريد أن يظهر بها الحزب الذي رفع أمينه العام تحدي تصدر الانتخابات المقبلة؟
الصراع بين التصريحات والواقع
في النهاية، لا شك أن هذا الوضع يعكس حالة من التنافر بين تصريحات بنكيران وحقيقة الوضع الداخلي للحزب. فالتناقض بين القول بأن الحزب “بصحة جيدة” وبين العجز عن جمع مبلغ بسيط لتغطية تكاليف مؤتمر، لا يُمكن أن يُمرَّ عليه مرور الكرام. إذ يعكس هذا التباين بين تصريحات القيادة وبين واقع الحزب حالة من الهشاشة الداخلية التي بدأت تترسخ بمرور الوقت، وإذا كان الحزب يراهن على إعادة توهجه قبل انتخابات 2026، فإن ذلك لن يكون بالحديث عن الصحة الجيدة، في وقت يعاني فيه من تراجع منسوب الثقة بين القيادة وقاعدة الحزب.