ماجدة بطار تكتب: رائدة.. في الإنسانية أولا
ومضى “طارل” الكريم..الذي أبلى حسنا فكان السباق الى إتحاف الذاكرة بأعظم قصص نجاح إنسانية قصيرة العمر عميقة الأثر..
صحيح أن التخوف من فشل أي تجربة مهنية جديدة أمر طبيعي ووارد، خصوصا إذا ما تعلق الأمر بمجال حيوي كالتدريس يكتشف فيه المرء إمكانياته وقدرته على إغناء ربرتواره المعرفي و البيداغوجي بطرق وآليات جديدة تسهل عملية التعليم باستخدام تقنيات حديثة تلهمه فتمنحه أفقا للإبداع، يبحث في ذاته عن شيء يحرك فيه جذوة الشغف بدينامية تشعره بقيمته كإنسان استثنائي يرى في كل يوم فرصة جديدة للتعلم وتقاسم ما عثر عليه صدفة في رحلة عطائه العظيمة الحبلى محبة وخيرا.
الريادة في أي ميدان تقتضي التدقيق في تفاصيله مع الحرص على تطبيق خطة العمل بحذافيرها، لكن السر في نجاحها يظل مرتبطا بالجانب العلائقي، خصوصا في فترة الدعم إذ يتوزع المتعلمون وفق مساراتهم على أساتذة المؤسسة ليعودوا بعد تمرير روائز التحقق إلى أساتذتهم الأصليين وقد تركوا انطباعا لا ينس في وجدان وذاكرة من مروا بهم، هذا التنويع العجيب يخلق ما يشبه “الطفرة”، صحيح أن مقامهم خفيف (لمدة شهر تقريبا) لكن عبورهم ذاك من فصول غير فصولهم واعتيادهم المؤقت على شخصية وطرائق مدرسين مختلفين يكيف استعداداتهم ويصقل تجاربهم الإنسانية بطباع طيبة قد يتأثروا بها إيجابا فتخلق لديهم قناعة حقيقية بأن التباين في شخصيات المدرسين أمر محمود يمكنهم من أن يقتادوا بها في حياتهم اليومية، كما يحفز ملكاتهم على الإبداع خصوصا إذا ما اقترن التعلم بإدراج أنشطة الحياة المدرسية كنوع من التنفيس عن ذواتهم واخراجهم من نمطية الفصل إلى حياة أخرى داخل المؤسسة لتمنحهم مساحة شخصية للتعبير وتفجير الطاقات الكامنة و المواهب الدفينة التي لم يسمح الزمن المدرسي بمنحها المشروعية الا خارج اطارالمألوف..
المرحلة الأولية في “طارل” أحدثت دهشة في نفوس المتعلمين بحكم أنها تجربة غير مسبوقة، موضعت معارفهم ومكتسباتهم السابقة ومكنت من تحديد مساراتهم ليتم بعدها برمجة خطة دعم وفق لبنات محددة، لكل واحدة منها خصوصية وطريقة اشتغال معينة ليبرمج رائز التحقق مما تم تسطيره من اهداف فإذا كانت النسبة مهمة يتم الانتقال الى مسار آخر وهكذا..
كلمة رائدة يتم ربطها غالبا في الذهنية الجماعية بغزو الفضاء، لكنها في مجال التعليم تعني السبق في الإنسانية أولا كما خبرتها، علاقة أشبه بارتباط روحي بين ضيوف غير متوقعين، يرتادون فصولنا كهدية خفية تأتي على حين غرة كعربون محبة متبادلة لا ينضب ينبوعها ولا تقطع أواصرها..
في أوقات الاستراحة أو بين حصتين، تعانقني أياد من الخلف وأخرى تشتاق للعودة إلى الفصل، وكأنهم أحبوا المادة على يدي “طارل” بطريقة سلسة ومبسطة، لم أسأل بقية زملائي إن انتابهم ذات الشعور لكن انطباعاتهم كانت كافية لأسلم بقدرة “التدريس وفق المستوى المناسب” على تحويلهم جذريا إلى متعلمين فاعلين واثقين في أنفسهم وكأن إمكانياتهم تفتقت كبذور عطشى لسقي يعجل بإزهار قريب وقطف مبكر لثمرات نضجت قبل أوانها وكأنها كانت على استعداد مسبق لتعطي أكلها و تملأ الدنيا بعبق رياحينها مغتبطة بالفرصة التي منحت لها كمنحة لن يجدوا لها مثيلا…
الانطباع الذي أخذته عن طارل من خلال القيل والقال أشعرني بالتذمر واليأس، لكن التجربة المهنية أفحمت تخوفاتي وجعلتني أقبل عليها غير مدبرة واضعة نصب عيني ما سبق وتحقق من نتائج متميزة، منتشية بفرحة تجاوب المتعلمين خصوصا في حصة الرياضيات باستخدام المبادلة بدل الاحتفاظ، وسلم الضرب بدل التلقين الجاف له الذي لا يمتع المتعلم في رحلة البحث عن الإجابة لتساؤلاته في حل المسائل إلا باستعمال استراتيجية الأسئلة الأربعة الجديدة المحددة للمطلوب منه بدقة فيتوصل إلى نوع العملية الموظفة في الحل وينجزها بطرق مبسطة مختصرة عنه الجهد والوقت خاتما مهمته بابتسامة انتصار كمن حقق إنجازا عظيما وشعورا بالرضى لم يخبره قبلا..
الظاهر أن باطن الأشياء يحمل في طياته الكثير من الأسرار و التفاصيل، بيد أن من سمع ليس كمن جرب، فقد تعلمت من”طارل” في فترة وجيزة ما أضاف إلى تجربتي الإنسانية والمهنية الشيء الكثير، بنيت جسورا من التعلق والمحبة المتبادلة وأنا في طريقي إلى تحديد مساراتهم والانتقال من لبنة إلى أخرى، غيروا نظرتي لمفهوم الريادة، كونها تحتاج فقط إلى من يضع ثقته في مقدرتها على التغيير بعد ذلك كل شيء يأتي من تلقاء نفسه.
الأمر حقا يستحق منحه شرف التجربة الإنسانية أولا، إذ لا معنى لحياة مهنية دون أثر طيب نتركه في نفوس الناشئة بالقدوة وإخلاص النية بأن ما نطمحه سينجح حتما شرط استحضار نبل الرسالة وعظمة المسؤولية الملقاة على عاتقنا وهي أن نكون رائدين ورائدات في تجسيد الإنسانية في أسمى وأرقى تجلياتها..بأن نتعامل معهم كغرس فتي قد تثبت جذوره وتتوغل في أرض الأماني الطيبة بكلمة وقد يذبل ويتلاشى بكلمة، بيدنا خيار من اثنين، مكسب أو خسارة، حصاد أو كساد، حياة أو موت…