بيبوط داداي يكتب: سقط الأسد ورجعت دمشق إلى تاريخها

 

 

ظلت أجواء دمشق عربية واستمرت كذلك منذ أن فتح الشام على يد الصحابي الجليل خالد بن الوليد، ولم يستطع كل غزاة الأرض الذين مروا منها تمريغ أنفها وكبريائها العربي الإسلامي على اختلاف أجناسهم من مغول وصليبيين وفرنسيين بل كانوا يخرجون منهزمين منكسرين أو متحولين متبنين لهويتها الدينية والحضارية نظرا لعراقتها وقدسية رسالتها لكل الوافدين عليها ضيوفا أو غزاة، وقد ارتبط التاريخ والفكر العربي والإسلامي ومجدهما بهذه المدينة أيما ارتباط ففيها دون جزء لا بأس به من الحديث الشريف وداخل أسوار جامعها الأموي بدأ التأصيل للفقه الإسلامي الذي ارتبط بظهور المعالم الأولى للمدارس الفقهية الكبرى وخاصة في المدينة والكوفة التابعتين لدمشق عاصمة الدولة الإسلامية الوليدة، وفيها ازدهر الشعر والأدب وتلبسا بلبوس أموي جعلهما متميزان عن سابقهما ولاحقهما، ومنها أيضا بدأت الدولة العربية الزمنية.

 

كانت الدولة الأموية خلافة عربية المنشأ والهياكل لم تحد القيادة فيها عن تعاليم نصوص الفقهاء الذين حصروها في النسب القريشي، وتداول على حكمها خلفاء من بني أمية أبناء عم الهاشميين وشركائهم في الشرف بمساعدة أعوان لهم من العرب القيسية واليمنية، وتجاوزوا في حكمهم للرعية أعراف الدولة الإسلامية حديثة العهد إلى النهل من تاريخ العرب الجاهلي القديم، فضلا عن التأثر بنظم الحكم القديمة المجاورة وخاصة الفارسية والرومية.

 

 

فاستحالت الخلافة الشورية “الديمقراطية ” إلى حكم أوتوقراطي وراثي داخل سلالة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وخضع الكثير من الفقهاء والتابعين لسان الرعية حينها لعملية واسعة استهدفت تنظيمهم في مؤسسة رسمية تعني بالإفتاء وتخضع للبلاط، وتسفه الخارجين عنه، وظهرت لأول مرة مقولة الجبر والإرجاء في تحدي واضح للنصوص القطعية عبر تجاوزها أحيانا ولي أعناقها أحيانا أخرى حتى تتناسب مع أهواء الحكام الجديد، الذي بدأوا متمسكين بأهداب الملك الزمني، ولم يعودوا أولئك الخلفاء الذين يخشون عثرة بغلة العراق، واستندوا في حكمهم إلى عشيرة ممتدة وولاة وأعوان متسلطون كالحجاج بن يوسف الثقفي. وكان لهذا الوضع كبير أثر على سير فتوحات الدولة الإسلامية شرقا وغربا وعلى الفكر العربي الإسلامي الذي بدأ يركن إلى نوع من التحجر المبكرالذي لايزال يعاني من بعض تبعاته إلى اليوم.

 

استمرت دمشق بكبريائها المعهود فخضعت لبني العباس ومن بعدهم لأقوام أخرى أعجمية في الغالب، إسلامية وصليبية، واستفاقت في العقد الثاني من القرن العشرين بعد أن بلغت التعبئة العربية أوجها ضد الأتراك على مشانق جمال باشا والي العثمانيين على دمشق التي كانت تصطاد كل هاتف بعروبتها، وبها ظهرت التنظيمات العربية على اختلاف روادها طائفيا، وفي بساتينها أزهرت نبتة العروبة التي انبلجت في الحجاز على يد الشريف حسين بن علي وأبنائه بعد تاريخ طويل من العجمة، وفي خضم الأحداث المتسارعة مع انهيار الدولة العلية العثمانيينة وسيطرة الفرنسيين على أرض الشام بعد اتفاقية سايكس بيكو ومقررات مؤتمر سان ريمو أبريل 1920 أنجبت مع شقيقاتها حلب وحمص وحماه واللاذقية وجبل الدروز وطرابلس وبيروت قادة عظام كسلطان الطرش وعبد الرحمان الشاهبندر وهاشم الأتاسي وشكيب أرسلان ورياض الصلح وغيرهم من القادة الذين واجهوا المستعمر الغاشم أيما مواجهة، وقبل هنيهة من خروج الاحتلال الفرنسي الحتمي ظهر حزب البعث الذي حاول سرقة نضال الشعب السوري من خلال التقليل من الملاحم السابقة والتنظير للدولة والمجتمع المنشودين، ولم يحفل هذا الوافد الجديد طيلة عقدي الأربعينات والخمسينات بتمثيلية مهمة في الجمعية الوطنية السورية –البرلمان السوري-فلجأ إلى الانقلاب العسكري عن طريق استغلال تغلغله في الجيش العربي السوري، ثم انقلب العسكريين على المدنيين داخله على يد صلاح جديد ثم انقلب حافظ الأسد على هذا الأخير سنة 1970، وككل التنظيمات التوتاليتارية قام حزب البعث بسحنته العسكرية الجديدة بالجمع بين حكم الدولة والمجتمع والتنظير لهما وحل ما عداه من الأحزاب والتنظيمات السياسية الأخرى، كما نحت التماثيل لزعيمه المظفر حافظ الأسد وجعله الزعيم الأول والخالد في سوريا في دولة اعتبرها الحزب في وثائقه قومية عربية مرتدية لبزة الاشتراكية في تناقض تام مع مرجعيات الفكر السياسي الحديث والمعاصر ونواميس تشكل الدولة القومية الحديثة خاصة في أوربا ومجتمعها السياسي ذو النهج الليبرالي ونظامه المتسم بالتعددية الحزبية.

 

أرغم حزب البعث العربي وقائده القطري حافظ الأسد السوريين على تقبل التبعية لنظام استثنائي طيلة ثلاثين سنة، قصفت خلالها المدن السورية بالطائرات الحربية أكثر من مرة وجر الآلاف من المواطنين العزل لمحاكمات صورية بتهم محاولة الانقلاب على الدولة وتغيير النظام بالقوة والتآمر مع القوى الأجنبية، وظلوا في السجون لعقود، كما تم تعطيل العمل بالدستور أكثر من مرة بإعلان حالة الطوارئ التي استمرت خلال كل هذه المدة، وبعد وفاة حافظ الأسد ظهر توريث الحكم الجمهوري لأول مرة في النظام العربي حينما اعتلى ابنه بشار سدة الحكم في 17 يوليوز 2000 بعد تعديل دستور البلاد المعطل واقعا، وبدأ البعثيون الذين هم في الأصل عسكريون في تحدي منظري الفكر السياسي والدفاع عن إنجازهم القومي الكبير وتسفيه التجارب الإنسانية وقواميس السياسة فيحكم الأمم وبناء الدول.

 

واستمروا في استغلال الوضع الجيوستراتيجي لسوريا ولبنان لتبرير جرائمهم ضد الشعب السوري الأعزل عبر استغلال وجود العدو الصهيوني على حدودهم الجنوبية والتهليل لسياسة الممانعة التي يدعون اتباعها والتي لم تحرر الجولان منذ يونيو “حزيران” 1967 والتخويف من حكم الاخوان المسلمين والقاعدة.

 

وبما أن حبل الكذب قصير فإن هذه الأقاويل لم تعد تجد لها صدًى بعدما وصلت مئات الآلاف من الشباب السوري إلى رشدها واستيقظت على حقيقة مفادها أنها تخضع لنظام استبدادي قهري يسخر العائلة وأعوان من الطائفة لتمديد سطوته على السلطة والدولة وتخريب الاقتصاد والمجتمع.

 

فخرجت الجماهير عن بكرة أبيها في كل المداشر والقرى والمدن السورية 15 مارس 2011 لطرد الاستبداد والهتاف بالحرية والديمقراطية، وقد عانت قرابة عقد ونيف من ويلات القتل على الهوية الطائفية والعرقية وتدمير المدن بالطائرات المقاتلة والبراميل المتفجرة وقتل الأطفال وهتك أعراض النساء، وتهجير الملايين من الناس إلى كل ربوع الأرض في مأساة قل نظيرها منذ عقود على مستوى العالم،لم تؤثر فضاعتها على بشار الأسد وزمرته الذي استعان بالقوات الأجنبية الإيرانية والروسية فضلا عن مئات الآلاف من المليشيات الشيعية المتطرفة لمواجهة ثوار سوريا والاستمرار في ترديد الأكاذيب المفضوحة عن العصابات المسلحة وعن الإرهابيين الدوليين المدعومين من قبل الغرب والدول المعادية له ولنظامه، أكاذيب خف بريقها مع توالي السنين فاستحالت إلى دعاية فارغة عارية من كل حقيقة حتى لدى أفراد جيشه الذي خارت قواه خلال أقل من عشرة أيام من انطلاق عملية “ردع العدوان” الذي قادته حركة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع الملقب بالجولاني وفصائل سورية مقاتلة أخرى فبدأت المدن السورية الكبرى ومطاراتها العسكرية تسقط اتباعا في أيدى الثوار السوريين الشباب إلى أن دخلوا دمشقا ليلة الجمعة ثامن دجنبر 2024 معلنين نهاية عقود من الحكم الفاشي لعائلة الأسد وزبانيتها فرجعت نجمة مدائننا وجميع مآثرها لسابق مجدها وتاريخها، وصدحت مآذن جامعها الأموي الكبير بالتكبير والتهليل والتعظيم لله جل وعلى على حسن صنيعه ونصره المؤزر.

 

 

بيبوط داداي، دكتور في التاريخ المعاصر، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس

 

مقالات مرتبطة :
تعليقات الزوار
  1. مغربي

    نتمنى لهم مستقبل مزدهر فما رأوه طيلة حكم المجنون حافظ وابنه المعتوه كافي لكي يشقوا طريقها الديمقراطية

اترك تعليق