كيف احتلّت إسرائيل جنوب لبنان عام 1978، ولماذا انسحبت بعد نحو 20 عاماً؟

جنود إسرائيليون في دبابة أثناء دخولهم مدينة صيدا الساحلية اللبنانية خلال غزو الجيش الإسرائيلي، في يونيو/ حزيران 1982
Getty Images
جنود إسرائيليون في دبابة أثناء دخولهم مدينة صيدا الساحلية اللبنانية خلال غزو الجيش الإسرائيلي، في يونيو/ حزيران 1982
"لقد حُرمنا من أرضنا منذ نحو سنة... أهلي وكل الذين أحبهم، لن يُدفنوا هناك، ولن يستطيعوا حتى زيارة قبور أحبائهم، لم يبقَ لدينا شيء، خسرنا كل ما نملك" بهذه الكلمات وصفت لنا شابة لبنانية من قرية كفركلا الجنوبية شعورها حيال الغزو الإسرائيلي الذي أجبر أهلها على النزوح من أراضيهم.مخاوفها لم تأت من فراغ، فهذا الغزو الإسرائيلي الشامل أعاد لأذهان اللبنانيين شبح الاحتلال الأطول لأراضي الجنوب.لا يمكن الحديث عن عشرين عاماً من الاحتلال في مقال واحد، لكننا نحاول هنا أن نلخص أبرز ما نعرف، كيف بدأ وانتهى الاحتلال، وكيف كانت تلك الفترة من تاريخ لبنان؟

الغزو الإسرائيلي الأكبر 1982: من "الليطاني" إلى "السلام من أجل الجليل"

جندي إسرائيلي بالقرب من مطار بيروت الدولي خلال استيلاء القوات الإسرائيلية على مناطق خارج العاصمة اللبنانية بيروت، في يونيو/ حزيران 1982
Getty Images
جندي إسرائيلي بالقرب من مطار بيروت الدولي خلال استيلاء القوات الإسرائيلية على مناطق خارج العاصمة اللبنانية بيروت، في يونيو/ حزيران 1982
مع قيام دولة إسرائيل عام 1948- ما يعرف فلسطينياً بالنكبة - هُجّر إلى لبنان نحو 110 آلاف فلسطيني، بحسب الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية، وبذلك أصبح لبنان وجهة رئيسية للاجئين الفلسطينيين، ولفصائل فلسطينية مسلحة بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية.في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، اشتبكت الفصائل الفلسطينية واللبنانية المسلحة مع الإسرائيليين لعدة مرات، وفي آذار/مارس 1978 استولى فلسطينيون على حافلة بعد وصولهم إلى شاطئ إسرائيلي، وخلال العمليات التي تلت ذلك، قُتل 38 إسرائيلياً فيما عُرف في إسرائيل بـ"مذبحة الطريق الساحلي". قررت إسرائيل غزو لبنان لأول مرة بعد هذا الهجوم، لتبدأ "عملية الليطاني" بهدف القضاء على قواعد منظمة التحرير الفلسطينية في جنوب لبنان واستعادة الأمن في شمال إسرائيل. توسع القتال أثناء المعركة لتصل العمليات العسكرية نهر الليطاني.استمر القتال بين القوات الإسرائيلية ومقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية حتى يونيو/حزيران 1978، قُتل حوالي ألفي لبناني وفلسطيني في هذا الهجوم، وانتهى بنشر قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة (اليونيفيل) المشّكلة بموجب قرارات مجلس الأمن الدولي التي دعت إلى انسحاب إسرائيل، إلا أن إسرائيل حافظت على سيطرتها على بعض القرى اللبنانية في الجنوب.

اشتباكات رغم الانسحاب الجزئي

لم يمنع هذا الانسحاب الجزئي استمرار الاشتباكات بين القوات الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية على الحدود اللبنانية. وفي عام 1982، حاول مسلحون فلسطينيون قتل السفير الإسرائيلي في العاصمة البريطانية لندن. اتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك مناحيم بيغن، منظمة التحرير الفلسطينية بتنفيذ العملية، وأطلق رداً على ذلك عملية "السلام من أجل الجليل" لغزو لبنان "بهدف إعادة الأمن إلى شمال إسرائيل، والقضاء على الحركات الفلسطينية المسلحة وبنيتها التحتية في شمال لبنان".شارك في الغزو أكثر من 40 ألف جندي إسرائيلي، إلى جانب مئات الآليات العسكرية التي اجتاحت لبنان بمساندة جيش لبنان الجنوبي- جيش لحد.بعد عشرة أسابيع من حصار بيروت الذي بدأ في حزيران/ يونيو 1982، نجحت إسرائيل في إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان تحت مراقبة دولية في نفس العام، ولكن مع اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب بشير الجميل -الذي كان حليفاً لإسرائيل - اجتاحت قوات الجيش الإسرائيلي العاصمة بيروت، وأحاطت بمخيمات اللاجئين، ودخلت مجموعات من ميليشيات لبنانية مناوئة للفلسطينيين مخيمي صبرا وشاتيلا تحت وهج القنابل المضيئة.

عشرون عاماً تحت الاحتلال

خريطة تقدم القوات الإسرائيلية
BBC
توغلت القوات الإسرائيلية في جبهات عدة، وتمكنت من الوصول إلى مشارف العاصمة بيروت خلال أسبوع، لكنها تراجعت بعد ثلاثة أشهر، مُنشئة منطقة عازلة داخل لبنان.
تشكلت آنذاك عدة مجموعات لبنانية لصد الغزو الإسرائيلي، وانسحب الإسرائيليون من بيروت خلال ثلاثة أشهر، إلا أنهم احتلوا أجزاءً إضافيةً من الجنوب.وفي عام 1985 أنشأت إسرائيل بالتحالف مع جيش لبنان الجنوبي أو ما عرف بجيش (أنطوان) لحد "منطقة أمنية" امتدت على طول الحدود بعمق وصل بين 5 إلى 20 كيلومتراً "لضمان سلامة سكان شمال إسرائيل".لكنّ المنطقة أصبحت فوراً محور صراع جديد بين القوات الإسرائيلية والجماعات المسلحة التي كانت قد نشأت حديثاً ومن أبرزها حزب الله.

كفاح عفيفي: من صبرا وشاتيلا إلى معتقل الخيام

الناشطة الفلسطينية كفاح عفيفي في مقابلتها مع جيزال خوري في برنامج المشهد، يوليو/ تموز 2017
BBC
الناشطة الفلسطينية كفاح عفيفي في مقابلتها مع جيزال خوري في برنامج المشهد، يوليو/ تموز 2017
تعد الناشطة الفلسطينية والمعتقلة السابقة في معتقل الخيام الإسرائيلي (في جنوب لبنان)، كفاح عفيفي، من أبرز الشهود على عصر الاحتلال، حيث شهدت مجازر صبرا وشاتيلا عام 1982، وحصار المخيمات في لبنان في الثمانينات.وبعد سنوات قليلة، اعتقل الجيش الإسرائيلي كفاح خلال محاولتها تنفيذ عملية عسكرية مع حركة فتح الفلسطينية، ضد القوات الإسرائيلية في جنوب لبنان. وكانت أصغر معتقلة في الخيام والفلسطينية الوحيدة بداخله حين اعتقلت حيث كان عمرها ثمانية عشر عاماً. وأفرِج عنها لاحقاً عام 1995.في لقائها مع برنامج المشهد عبر بي بي سي عام 2017، روت عفيفي تجربتها مع الاحتلال الإسرائيلي منذ الطفولة حتى الاعتقال."إنهم يذبحون الجميع"- صبرا وشاتيلاتقول عفيفي: كان عمري 11 عاماً، كنا جالسين في المنزل، بدأ الجيش الإسرائيلي بإلقاء قنابل مضيئة على المخيم وبدأ القصف.خرجنا من المنزل باتجاه ملجئ قريب، لكن أحدهم جاء وأخبرنا بأنه علينا الفرار: إنهم يذبحون الجميع.قرّرت مجموعة من المسنين مفاوضة الميليشيات لأن أغلب الباقين (بعد مغادرة الفصائل الفلسطينية) هم من الأطفال والنساء والكبار في السنّ، فلحق بهم أخي وشاهدهم يُقتلون.سرنا وراء شاب حتى وصلنا إلى مستشفى غزة (داخل المخيم)، شاهدنا أفظع المشاهد، الجثث على الأرض ونحن نعبر من فوقها.رآنا إسرائيليون، فأخذونا جميعاً إلى ملعب "المدينة الرياضية"، فرّقوا بين الرجال والنساء. بدأوا بمناداة الشباب ورميهم بالرصاص أمامنا. ابنة عمتي كانت حاملاً، شقّ أحدهم بطنها ووضع الرضيع بجانبها.رجل ركض ليحمي أبناءه - كانوا يرتدون زي الأطباء - فغمرهم لكنهم قتلوه مع أبنائه."كان اسمي 2237"- معتقل الخيامأما عن تجربتها في معتقل الخيام، تقول عفيفي: لم يكن لدي اسم، كانوا ينادونني 2237.كنت صغيرة، بل كنت أبدو أصغر من عمري الحقيقي.عندما وصلت وُضعت في زنانة، ثم أتت المجندات الإسرائيليات ليتصورن معي، وبدأن بالاستهزاء بي.كانت أصعب مرحلة حينما مزقوا ثيابي كي يغتصبونني.
نساء يقفن أمام حفرة وبجانبهن جثة مغطاة
Getty Images
"سُمع صوت إطلاق نار آتياً من الحفرة وتكهّن بأن جميع من فيها قُتلوا"- مجزرة صبرا وشاتيلا

"فيدراليات طائفية"

يقول الصحفي والمحلل اللبناني جورج علم - الذي عاصر تلك الفترة إنّ الحرب على لبنان اليوم "أعادت إلى الأذهان الحرب الإسرائيلية التي شنت على لبنان منذ مطلع الثمانينات".ويروي علم، في حديثه لبي بي سي كيف كان لبنان في تلك الفترة يعاني من حروب داخلية حول انقسامات سياسية وطائفية ومذهبية.وصف الوضع الاجتماعي في لبنان حينها بالـ "خطير"، وأوضح أن "لبنان انقسم على نفسه... بيروت الغربية كانت تقريباً محسوبة على منظمة التحرير والطائفة السنية، بيروت الشرقية محسوبة على المعارضة لمنظمة التحرير والقطاع المسيحي، بالتالي استطاعت القوات اللبنانية أن تبني دويلتها، من جزين حتى المدفون في شمال لبنان".ولفت علم إلى أن "النفوذ الشيعي لم يكن على هذه القوة التي هو عليها الآن، لكن طبعاً كان له مناطقه سواء في الجنوب أو في البقاع، إضافة لنفوذ درزي في بعض المناطق".وأشار إلى أن "الاجتياح الإسرائيلي للبنان خلخل البنية الوطنية، بمعنى أنه كان هناك بعض المتعاطفين معه، كما كان هناك بعض المعارضين... وحين انسحبت إسرائيل من الجنوب، تركت البلاد في فوضى سياسية واقتصادية كبيرة" بحسب علم.وقارن علم بين النزوح خلال حرب 1982 والحرب الحالية، قائلاً: "لم نشهد نزوحاً كثيفاً، كالذي نشهده اليوم، لأن العمليات الحربية عند الاجتياح الإسرائيلي اقتصرت على المواجهة بين فصائل منظمة التحرير والجيش الإسرائيلي، وبالتالي هناك مناطق بقيت بعيدة عن الاستهداف والتدمير وبقي الناس فيها".

خروج الإسرائيليين من لبنان ونتائجه

جنود إسرائيليون في دبابة أثناء دخولهم مدينة صيدا الساحلية اللبنانية خلال غزو الجيش الإسرائيلي، في يونيو/ حزيران 1982
Getty Images
جنود إسرائيليون في دبابة أثناء دخولهم مدينة صيدا الساحلية اللبنانية خلال غزو الجيش الإسرائيلي، في يونيو/ حزيران 1982
تقول الباحثة في الاستراتيجيات والسياسات الدولية لارا الذيب في مقالها "لبنان: احتلال ينتهي" المنشور في مركز بحوث ومعلومات الشرق الأوسط عام 2000، أن الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان فاجأ معظم المراقبين."عندما خرج آخر جندي إسرائيلي من الأراضي اللبنانية في الساعات الأولى من صباح الرابع والعشرين من مايو/أيار عام 2000، أنهى بذلك احتلالاً دام نحو 20 عاماً قبل أسابيع قليلة من الموعد الذي حدده رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك في السابع من يوليو/تموز".وأشارت إلى أن "الانسحاب الذي كان من المتوقع أن يجري تدريجياً تحت إشراف الأمم المتحدة نُفذ في 48 ساعة فقط".قُتِل خلال الغزو قرابة 20 ألف شخص على الجانب اللبناني، معظمهم من المدنيين، أما على الجانب الإسرائيلي، قُتِل 654 جندياً.وفي أعقاب الانسحاب، غادر بعض أعضاء جيش لحد البلاد، فيما سلم المئات أنفسهم إلى السلطات اللبنانية. كما غادر البعض إلى إسرائيل رغم عدم انتمائهم إلى لحد، لكنهم اعتادوا عبور الحدود للعمل، وكانوا يخشون الاضطهاد وفقدان الدخل، بحسب الذيب.

شاهد أيضا

التعليقات مغلقة.