سنة على «الطوفان» في الميزان
إن شيطنة المقاومة واختلاق الوشائج الخطرة وإعطاء الدروس في التروي وحول موازين القوى ليست إلا ذريعة للوصول لنفس الهدف: بلا مقاومة كنا سننهي فلسطين وبالمقاومة سنبيد الفلسطينيين. نعم، بكل ما سلف من فظاعات كان يعيشها الفلسطيني في اليومي، يمكن أن نقول إن لإسرائيل حق الرد. ولكن، مقابل 250 رهينة و1400 قتيل، هل يمكن أن يقبل العقل استمرار الإبادة اليومية في غزة بعد أن أطلق جيش الاحتلال خلال سنة واحدة 85 ألف طن من المتفجرات وهو ما يزيد عن 6 أضعاف القنبلة النووية التي أسقطت على هيروشيما؟ وهذا خلف 41 ألف شهيد ثلثاهم من الأطفال والنساء و100 ألف جريح و2 مليون من النازحين، وتدمير 72٪ من الوحدات السكنية ومسح تام للمنظومة الصحية والتعليمية والأثرية والتراثية.
يقول المتفائلون وهم يقيمون سنة على أكبر عملية مقاومة تضرب إسرائيل في 7 أكتوبر 2023: «إن إسرائيل لم تنتصر والمقاومة لم تندحر». ويقول الآخرون الذين يتناغمون مع التحليلات الغربية إن حماس وما جاورها من مقاومة قد غامرت بل قامرت بما اقترفته في ما أطلق عليه «طوفان الأقصى» وأنها هي التي تتحمل وزر كل هذا الدمار الذي سَوى غزة بالأرض ونشر في سمائها الرعب وبين أهلها الموت والجوع.
مسؤول فلسطيني رفيع في السلطة غير المتناغمة مع حماس يقول إن بريطانيا ـ نيابة عن الغرب ـ زرعت الكيان الصهيوني في المنطقة والولايات المتحدة الأمريكية سلحته بما يجعله يتفوق على جيوش العالم العربي مجتمعة. وقد حصل هذا منذ عقود، فما جدوى مواجهة هذا الكيان بالقوة بدل أن نواجهه بالديبلوماسية والقانون الدولي، واعتبر أن مجرد التقدم بطلب العضوية في الأمم المتحدة كان بمثابة سلاح فلسطيني ضد إسرائيل. وأما جرّ إسرائيل إلى المحكمة الجنائية الدولية فقد قال عنه مسؤول أمريكي للرئيس الفلسطيني إنه سلاح نووي ضد تل أبيب!
الخلاف الفلسطيني في الحقيقة، ومن ورائه التشرذم العربي والانقسام في الموقف من المقاومة، كان هو السلاح النووي الحقيقي الذي ضرب هذه القضية الأكبر في العالم، كعنوان لأبشع احتلال وأكبر ميز عنصري بعد تحرر جنوب إفريقيا.
ورغم تبرم السلطة الفلسطينية وجزء كبير من الأنظمة العربية الإسلامية من المقاومة، سواء بسبب مقاربتها العسكرية أو الإديولوجية، فإن محمود عباس الذي يحكم الضفة الغربية صوريا وتفعل به إسرائيل ما تفعله بغزة تماما وإن كان بشكل ناعم، قال في أول كلمة نطقها في الجمعية العامة للأمم المتحدة المنعقدة نهاية الشهر الماضي وقبل البسملة وعبارات المجاملة هي: «لن نرحل. لن نرحل. لن نرحل». وبعدها اضطر نتنياهو الذي لم يبرمج إلقاء كلمة بنفسه في هذه الجمعية إلى أن يطير إلى نيويورك ليلا ليلقي كلمة يرد فيها على عباس أبومازن وينكر حل الدولتين ويرمي مخططا للتهدئة في جبهة الشمال أعدته فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية في أقرب سلة مهملات، ويعطي موافقته على اغتيال زعيم حزب الله حسن نصر الله من غرفة فندقه بنيويورك.
هل قامر رئيس حركة حماس حاليا يحيى السنوار إذن عندما ضرب إسرائيل في عمقها وأهان جيشها «الذي لا يقهر» وضحى بشعب غزة لأسباب أنانية تتعلق بتفضيل مصلحة المقاومة على مصلحة الشعب الفلسطيني؟ هنا لن نجد رأيين مختلفين بل خطين متوازيين لا يلتقيان، وكان هذا هو حال أصحاب القضية من فلسطينيين وعرب ومسلمين منذ عقود، فيما الغرب موحد مناصر لإسرائيل ظالمة أو مظلومة.
إن قتل المدنيين مدان إنسانيا وأخلاقيا وقانونيا من أي طرف كان. ولكن في 7 أكتوبر، وإذا كانت هناك بعض الأعراض الجانبية للعملية التي هزمت يقظة «الجيش الذي لا يقهر»، فإن الدعاية الإسرائيلية أثرت على صورة العملية في مخيال الرأي العام الغربي عندما تحدثوا عن قطع رؤوس أطفال وحرقهم واغتصاب نساء وحرقهن. وعموما كانت خسائر الإسرائيليين حسب أرقامهم في حدود 1400 من القتلى أغلبهم من الجنود و250 من الرهائن تقريبا عند كتائب القسام والجهاد الإسلامي.
الغرب يقول إن الرد مشروع، ليس هناك مشكل! ولكن المقاومة أيضا مشروعة لأن العملية لم تكن من تنفيذ عصابة إجرامية لسرقة بنك بل كانت من أجل إعادة ترتيب أو بعثرة أوراق قضية فلسطينية دخلت مرحلة النسيان، وكانت قاب قوسين أو أدنى من أن تباع وأن يدق آخر مسمار في نعشها بعد أن تلتحق المملكة العربية السعودية بكل رمزيتها الإسلامية كبلد للحرمين الشريفين باتفاقيات أبراهام.
لم يكن الأمر هكذا فقط قبل 7 أكتوبر، بل إن غزة كانت تقع تحت حصار شامل دام 17 سنة كاملة. وصعد للجهاز التنفيذي في إسرائيل أشهر المتطرفين لتتشكل الحكومة الأكثر جنونا في تاريخ الكيان المحتل منذ النكبة، وعمودها الفقري متكون من متابعين من طرف العدالة الإسرائيلية نفسها، وهم نتنياهو وسموتريتش وبن غفير الذي كان مدانا بقضايا إرهاب داخل إسرائيل فأصبح وزيرا للأمن القومي! وهؤلاء هم الذين صعدوا حملاتهم على القدس الشريف وتخطوا كل الخطوط الحمراء واستباحوا الضفة الغربية وزادوا في تسليح المستوطنين وهدموا أحياء فلسطينية كاملة وسرعوا عمليات الاستيطان وقضموا الأراضي التي تديرها السلطة الفلسطينية حسب اتفاقيات أوسلو وعبروا علانية عن رفضهم لحل الدولتين!
وقبل هذا بقليل كان قد حل بالبيت الأبيض رئيس غريب الأطوار شديد الاندفاع وقليل الخبرة اسمه دونالد ترامب، وقبل أن يقرأ ملف القضية دبج لصهره كوشنير صفقة مثل الصفقات التي يتقنها عندما كان يسير فنادقه وكازينوهاته واقترح 50 مليار دولار موزعة على عشر سنوات للفلسطينيين مقابل أن يتنازلوا عن 30٪ أخرى مما قبلوا التنازل عنه في اتفاقات أوسلو التي أعطتهم 20٪ فقط من أرض فلسطين التاريخية، لتبقى لهم في النهاية 10٪ من فلسطين التاريخية مع الاعتراف بالقدس موحدة كعاصمة لإسرائيل، وترك أرض خلاء نائية تابعة للضواحي البعيدة يمكن للفلسطينيين أن يطلقوا عليها اسم القدس كعاصمة لدولتهم فلسطين المكروسكوبية، مع رفض عودة اللاجئين ومساعدة من لا جنسية له في المنفى على اكتساب حقوق الإقامة في دول استقبال بتدخل أمريكي. وزاد ترامب على كل هذا أنه هدد كل من سيقدم المساعدات للسلطة الفلسطينية بعقوبات أمريكية.
واليوم، وبعد فشل صفقة القرن، تظل السلطة الفلسطينية محجورا عليها بحيث تعيش برسوم جمركية تجنيها إسرائيل وتقدمها لها بعد أن تخصم منها 10٪، بل إن وزير المالية سموتريتش ومن معه بدأوا يخصمون حتى الرواتب التي تقدمها السلطة لأسر 10 آلاف من السجناء في السجون الإسرائيلية، ومنهم مئات هم الآن من أقدم سجناء العالم من المحكومين بأربعين سنة سجنا، ثم بدأوا يخصمون ما تقدمه السلطة لغزة. وإذا جمعنا كل هذا فإننا لم نكن إزاء مسلسل سلام أطلق عليه يوما وصف «سلام الشجعان» وإنما أمام «استسلام الخرفان» التي تذبح يوميّا وستائر النسيان نازلة والقضية الفلسطينية تصفى أو صفيت.
7 أكتوبر 2023 قلب كل هذا الطريق الذي كانت نهايته الحتمية هي تهجير فلسطينيي الضفة إلى الأردن وفلسطينيي غزة إلى سيناء بمصر. لهذا قال عباس أبومازن في الأمم المتحدة «لن نرحل» وهو يعي ما يقول.
إن شيطنة المقاومة واختلاق الوشائج الخطرة وإعطاء الدروس في التروي وحول موازين القوى ليست إلا ذريعة للوصول لنفس الهدف: بلا مقاومة كنا سننهي فلسطين وبالمقاومة سنبيد الفلسطينيين. نعم، بكل ما سلف من فظاعات كان يعيشها الفلسطيني في اليومي، يمكن أن نقول إن لإسرائيل حق الرد. ولكن، مقابل 250 رهينة و1400 قتيل، هل يمكن أن يقبل العقل استمرار الإبادة اليومية في غزة بعد أن أطلق جيش الاحتلال خلال سنة واحدة 85 ألف طن من المتفجرات وهو ما يزيد عن 6 أضعاف القنبلة النووية التي أسقطت على هيروشيما؟ وهذا خلف 41 ألف شهيد ثلثاهم من الأطفال والنساء و100 ألف جريح و2 مليون من النازحين، وتدمير 72٪ من الوحدات السكنية ومسح تام للمنظومة الصحية والتعليمية والأثرية والتراثية.
وليتم هذا كله بدون شهود، أو بأقل عدد منهم، فقد قتل جيش الاحتلال 174 صحافيا ودمرت 183 مؤسسة إعلامية. هل هذا هو تناسب الفعل مع رد الفعل مع أن الفاعل مقاوم والمتفاعل محتل؟ هل يعقل أن تخرق إسرائيل كل القوانين الدولية والإنسانية وتحتقر أحكام أعلى الهيئات القضائية التي حكمت ضدها وضد جرائمها ومجرميها في الجنائية الدولية ومحكمة العدل؟ وهل حققت إسرائيل بهذا التدمير الأعمى والمجازر الوحشية أهدافها وهي مضطرة بعد عام كامل لمواصلة جرائمها فيما تواصل المقاومة المعركة، أي أنها استمرت في الوجود على الرغم من اللاتكافؤ الخيالي في موازين القوى؟
وعندما لم يحقق نتنياهو ومتطرفوه نتيجة مبهرة تمحو إهانة 7 أكتوبر، اتجهوا نحو الشمال وقتلوا قادة حزب الله وعلى رأسهم حسن نصر الله وبدأوا بقصف عنيف للبنان ليس في معاقل حزب الله فقط في الجنوب بل في بيروت نفسها والشمال أيضا، ويستعدون لهجوم بري، بل إنهم هم من استفزوا الإيرانيين مرتين بضرب قنصليتهم في سوريا في 1 أبريل أولا وقتل ضباط كبار على رأسهم العميد محمد رضا الزاهدي ثم اغتيال رئيس حركة حماس إسماعيل هنية في قلب طهران يوم 31 يوليوز، وعندما ردت إيران برشقات صاروخية، أصبح الموضوع اليوم في عقل نتنياهو ووراءه واشنطن هو ضرب إيران!
لقد حول الإسرائيليون الفشل في تحقيق انتصار ساحق على المقاومة، مع امتعاض جزء واسع من الرأي العام الدولي من جرائمهم، إلى وجهة أخرى لا علاقة لها بالموضوع الرئيسي وهو حل الدولتين. وبدأ خلط الأوراق الذي انزلق إليه البعض بحيث أصبح الموضوع في النهاية هو من مع إيران ومن ضد إيران! ويكاد يختفي الخيار الأكبر والأجدر وهو: من مع الاحتلال الصهيوني الغاصب ومن مع دولة فلسطينية مستقلة على حدود 67 وعاصمتها القدس الشريف بمسجده الأقصى؟
لم يسبق في تاريخ البشرية أن كان التحرر من الاحتلال بلا ثمن باهظ والفلسطينيون أدوا ويؤدون، وبكل هذا الجبروت الدولي الحاضن لإسرائيل، فإنهم لن يمحوا من الخريطة رغم المؤامرات والتواطؤات وقلب الحقائق، والواقعية الاستسلامية أو المصلحية، ورغم بعض محبي إسرائيل وكارهي الفلسطينيين أو المتحججين بانقسامهم، وها هي فتح تلتقي حماس هذه الأيام في القاهرة. فالحكومة الإسرائيلية التي ارتكبت هذه الجرائم ضد الإنسانية لم تستطع لحد الآن أن تحقق منجزا مبهرا سوى اغتيال حسن نصر الله، ولهذا تسارع لاستثماره حتى تبني مجد حرب أخرى كنكسة حرب الأيام الستة في 67. ولذلك تخبط خبط عشواء في لبنان وعينها على طهران، فيما القضية الأساس بجوارها هناك، فما عليها إلا أن تفتح دفاتر أوسلو وتواصل مفاوضات جادة لإقامة دولة فلسطينية تعيش بسلام بجانب الدولة الإسرائيلية، كما فعل إسحاق رابين وياسر عرفات.
لقد تم اغتيال عرفات من طرف الصهاينة وهذا يمكن أن يكون مفهوما من دولة قائمة على القتل، ولكنهم اغتالوا رئيس وزرائهم رابين أيضا. ومن لم يفهم ويعتبر من هذا الواقع فهو لا يريد أن يفهم، وها قد مرت 76 سنة وهم يراهنون على تصفية القضية الفلسطينية، وها هي عادت بكل عنفوانها كأم القضايا الدولية، ومجرد هذا يعتبر انتصارا. ورغم أن الصهاينة في سيناريوهاتهم يقولون إن الغد سيكون لإسرائيل، فإن الفلسطينيين والمؤمنين بالقضايا العادلة يقولون إن الغد سيكون لفلسطين. وإن غدا لناظره قريب.