الدوسيمولوجيا مسألة حياة أو موت
عثمان البية
باحث في سلك الماستر وأستاذ مادة الفلسفة
باتت الحوادث المتعلقة بنتائج الامتحانات تنتشر انتشار النار في الهشيم، وتتفاقم بتفاقم تركيزنا على نتائج التقويم. فصرنا بين معلم يتعرض للتهديد أثناء حراسته للامتحان، وبين من ينفق أموالا باهظة للغش فيه، وبين من هو مستعد للتخلي عن كل شيء جسدا وروحا وكرامة لصالح من بيده سلطة التقويم، وبين مكتئب ومنتحر وهلم جرا.
فاختًزلت عملية التعليم والتعلم في نتائج الاختبارات الدراسية. بل إن تقويم بعض الاختبارات، خاصة المتعلقة بالترقي، كامتحان الكفاءة المهنية مثلا، أضحى مفصليا في تحسين الدخل ومرتبطا ارتباطا مباشرا بلقمة العيش. فلم يعد للاختبار دورا تكوينيا فقط لمعرفة مكامن الخلل من أجل إصلاحها، وإنما أمسى له دورا حاسما في تحديد مسار مستقبل الأفراد. فصار معظم من يود ولوج سوق الشغل من الشباب يعلق آماله على نتائج الباكالوريا بوصفها بوابة هذه السوق؛ إن هو استطاع تجاوزها أشرقت الدنيا في نظره، وإن لم يستطع أظلمت واسودت، خصوصا عندما نتحدث عن متعلم يعيش تحت عتبة الفقر وفي ظروف مزرية.
وربما هذا ما يفسر حوادث انتحار بعض المتعلمين في الآونة الأخيرة بمدينة آسفي وغيرها. وتبعا لذلك، فقد تجاوزت نتائج الاختبارات كونها تصف مدى تمكن المتعلمين من مجموعة من الكفايات، إلى كونها مسألة حياة أو موت. فما الذي جعل من نتائج الامتحانات بعبع المتعلمين؟ وهل يجدر بنا حقا إيلاؤها كل هذه الأهمية؟ أين تكمن العلاقة التي تربط بين نتائج الاختبارات وهذه الحوادث المأساوية وبين الدوسيمولوجيا؟ وإلى أي حد يمكن للدوسيمولوجيا أن تحول بيننا وبينها؟
في لوحته الشهيرة، وبحدس فنان، يصف فيودور بافلوفيتش ريشيتنيكوف (1952) Fyodor Pavlovich Reshetnikov حال المتعلم اليوم، مصوبا في الآن ذاته على كبد الإشكال الدوسيمولوجي، واضعا سبابته على العامل الأساسي خلف مأساة المتعلم اليوم. فلما كانت نتائج الاختبارات، خاصة النتائج المتعلقة بالامتحانات الإشهادية، وثيقة الصلة بولوج سوق الشغل وكسب لقمة العيش، ولما كانت هذه النتائج مرتبطة في التصور العام لأفراد المجتمع بمستوى ذكاء المتعلم؛ أصبحت هذه النتائج مصيرية في نظر المتعلم، بحيث ينظر إلى نفسه وقيمته من خلالها.
تقوم هذه الرؤية على مجموعة من المسلمات من بينها: أن نتائج الاختبارات تشكل معيارا دقيقا وصالحا لولوج سوق الشغل، وأنها قادرة على تحديد مستوى ذكاء المتعلم، وأن قيمة المتعلم تكمن في مستوى ذكائه وفي قدرته على الفوز على أقرانه بمنصب شغل. وهذه المسلمات ما هي إلا ثمرات تصور تنثل جذوره إلى بوادر الفلسفة الحديثة.
فإذا كان العقل هو الشيء الأعدل قسمة بين الناس، كما ذهب ديكارت، وأن الفرق في قدرتنا على إصابة الحق من عدمه تكمن في طريقة استعمالنا لهذا العقل؛ فإننا مسؤولون عن مدى ذكائنا أو غبائنا. ولذا فإن الذكاء شيء يفخر به المرء والغباء شيء ينبغي أن يخجل منه. لكن ما معيار الذكاء والغباء هنا؟
يستثمر دول ويليام قصة الذئب والخروف لصاحبها لافونتين ليصف واقع العالم الحديث الذي ينبني على مبدأ القوة. فالمسألة هي مسألة الحركة الأقوى في اللعبة، مسألة قتل “الشاه”. يسلط دول ويليام مجهره على هذه اللعبة، التي يبدأها ديكارت ضعيفا عن عمد، أي مصطنعا الشك المطلق، ليقلب الطاولة لصالحه على حين غرة. في هذه اللحظة، ومن أعماق الشك المطلق واليأس المطبق، يستعين ديكارت بلاعب لا يشق له غبار، هو الإله نفسه. الآن لم يعد للخطأ مكان، أصبح الخطأ مقيتا. إما أن تكون معي أو تكون ضدي، إما أن تكون مع الإله (الورقة الرابحة “Joker”) أو تكون ضده. فها هنا سمتين من سمات العصر الحديث: السمة الأولى أن علاقة الإنسان بالمعرفة في هذا العالم هي علاقة مبنية على الصراع والعنف، والسمة الثانية له هي تأليهه للإنسان بشكل عام وللمقوم بشكل خاص.
جلي ذاك الموقف الديكارتي من الطبيعة، القائم على معرفة قوانينها قصد التحكم فيها لصالحنا. غير أن الفرد لكي يتحكم في الطبيعة، يجد نفسه مضطرا للتنافس مع بني جنسه على معرفة هذه القوانين من أجل الظفر بسيطرته على الطبيعة. وبهذا فإن المعرفة هنا وسيلة وليست هي الغاية. كما أن علاقة المواجهة والصراع العنيف بين الإنسان والطبيعة، صارت بين بني البشر أنفسهم من أجل السيطرة على الطبيعة. لذا فالعلاقة التي تجمعنا بالمعرفة، بناء على هذا التصور، هي علاقة صراع وليست علاقة تعاون، هي علاقة مبنية على العنف لا على المحبة.
“مناصب الشغل محدودة، لذا علي أن أتنافس مع زملائي ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وبكل الوسائل، من أجل الحصول على أعلى النتائج في الاختبارات والفوز بأحد تلك المناصب التي تمنح المرء قيمة ومكانة اجتماعية معينة. فالغاية هنا تبرر الوسيلة”. من هنا منشأ ظاهرة الغش واستفحال ما يسمى “بالعنف المدرسي”. إذ سيظل العنف المدرسي سائدا ما ارتبطت نتائج الاختبارات ارتباطا مباشرا بسوق الشغل. فهذا الارتباط يعمق علاقة الصراع ويسعر نارها. ووحده فك هذا الارتباط وجعل المعرفة قيمة في ذاتها لا وسيلة، ما من شأنه أن ينقلنا من حال الصراع والعنف إلى حال التعاون والمحبة. كل حديث عن التعلم بالأقران في غياب فك هذا الارتباط ضرب من العبث.
وما دام التنافس والصراع هو ما يحكم علاقة المتعلمين فيما بينهم، فإن النتيجة المباشرة له هو أسلوب التدريس السلطوي الذي يمكنه توجيه هذا الصراع أو الحد منه. وهو ما يقودنا إلى تحليل السمة الثانية من سمات العصر الحديث، في علاقتها بعملية التعليم والتعلم.
تلك الحركة التي قام بها ديكارت، على غرار أي لاعب شطرنج محترف، بأن استنجد بالإله وزعم أنه ينظر بنوره الفطري (العقل)، ليس لها إلا أن تعني أن الصواب حليفه ما دام مسترشدا بمنهج يسدده. من وافقه الرأي فقد أصاب، ومن عارضه فقد أخطأ. وبما أن الخطأ هنا هو مجانبة للنور الإلهي والقوانين الإلهية، فإن المخطئ مذنب. هذا ما آل إليه وضع الفرد داخل المجتمع، فأضحى الخطأ مدعاة للخجل. فالخطأ في المتن الديكارتي ما عارض مبدأ الوضوح والتميز، أي ما خرج عن النسق الديكارتي وعن قواعده. وعلى هذا الدرب سار العقل البشري، الذي يفكر من داخل نسق يخول له تبرئة الصواب من الخطأ. وبالتالي فإن كل نسق يشكل معيارا لذاته، ويتشرنق على نتائجه، ولا يستطيع التواصل مع غيره من الأنساق، طالما أن المقدمات والقواعد تختلف من نسق إلى آخر. إنه توجه يعدم الحوار والتواصل والإبداع، ويكرس للدوغمائية والسلطوية والآلية.
فإذا كان فيلسوف الأنساق يميز الصواب من الخطأ انطلاقا من نسق يشكل نموذجا جاهزا، فإن المقوّم اليوم يقيم المتعلم انطلاقا من نموذج جاهز للصحيح والخاطئ، بشكل مسبق وسلطوي وغير قابل للناقش، مستبعدا أي إمكانية للإبداع من شأنها أن تهدد هذا النموذج. فيجد المتعلم نفسه مضطرا للتمرن على مجموعة من القواعد والتقنيات من أجل تطبيقها بشكل حرفي وآلي، وتكييفها مع الوضعيات الماثلة أمامه. ونماذج التقييم الدوغمائية والسلطوية والآلية هاته، يظهر وهنها حالما نقارن بعضها ببعض.
في تجربة بونيول J.J. Bonniol سنة 1972؛ التي قدم فيها 26 ورقة امتحان، في مادة اللغة الإنجليزية، ل18 مصحح لهم المؤهلات نفسها وسلم التنقيط نفسه، بين 0 و20 نقطة؛ حصل على فوارق في تنقيط الورقة الواحدة تصل إلى 12.5 نقطة. وفي تجربة أخرى للوجيي Laugier ووينبرغ Weinberg اختلف ستة مصححين حول نجاح أو رسوب 36/100 من أوراق امتحانات الباكالوريا في مادة الرياضيات.
ومثل هذه التجارب يعيشها المصححون في كل سنة دراسية، إذ المتعلم نفسه قد يحصل على نقطة 0 من طرف مصحح ما وعلى 13 نقطة من طرف مصحح آخر. وهو ما يجعلنا نتساءل عن مدى مصداقية هذه الاختبارات التي تحدد مستقبل الأفراد ومصائرهم. إننا قد نضل إذ نحاول جاهدين ضبط سلالم التنقيط رفعا لمستوى دقتها، وما إلى ذلك من المحاولات التي أبانت عن فشلها. فلا الاختبار ولا سلم تنقيطه بإمكانه تقييم المتعلم على ما هو عليه. فالاختبار الشفوي من شأنه أن يقيم حالة نفسية عابرة للمتعلم، لا المتعلم في ذاته.
والاختبار الكتابي إنما يستهدف معارف ومهارات دون غيرها. وتقييم هاته وتلك إنما هو تقييم لحالة المصحح النفسية أكثر منه تقييما للمتعلم. إنما الأحرى بنا أن نطلق العنان لقدرات المتعلم الإبداعية ليعرب عن جدواه عمليا لا نظريا فحسب.
أزفت ساعة أفول هذه الاختبارات التي ما برحت تصير غاية في ذاتها. ولطالما حذر ميشيل طوزي من مآل كهذا المآل، مآل صار فيه الاختبار أهم من المتعلم نفسه، بل صار فيه الاختبار على حساب صحة المتعلم النفسية وقدراته الإبداعية. إننا إذ نعيش في النسب والأرقام إنما نعيش في الوهم. كانت العصا في وقت غير بعيد وسيلة من الوسائل الديداكتيكية، وهذا أمر مخجل، أفلم يأن لنا أن نخجل من استبدال عصا النقطة بتلك العصا؟ لإن كان أثر العصا في الجسد سرعان ما يمحي، فإن بعض آثار نتائج الاختبارات على النفس لا تمحي أبدا. ولعله ما يفسر حوادث انتحار المتعلمين. فمسألة نتائج الاختبارات إذن بلغت من الخطورة بمكان لتصير مسألة حياة أو موت، في ظل ظروف المتعلمين المادية؛ ولذا فإن مسألة الدوسيمولوجيا اليوم، بلغت من الأهمية أن صارت مسألة حياة أو موت، بوصفها علم الامتحان الذي يدرس مناهج التقويم.
قطعا، نحن لسنا في وضع يخولنا التخلي عن النقطة نهائيا، لكن لا مناص من الحد من وطأتها رويدا رويدا. وقوف نتائج الاختبارات بين المدرس والمتعلم مرتع لعلاقة بيداغوجية مرضية. آن لنا أن نسحب البساط شيئا فشيئا من تحت أقدام سلطة النقطة، وأن نجعل المتعلم يأمن جانب النقطة على الأقل. إذ حصول المتعلم على نقطة أعلى من نقط أقرانه لا يعني أنه أكثر ذكاء منهم، ولا يعني أنه أكثر قيمة منهم أو حتى أكثر كفاءة منهم؛ خصوصا إذا علمنا أن المدارس اليوم، لا تختبر المتعلمين في أكثر من ثلاثة أو أربعة أنواع من الذكاء من أصل تسعة على الأغلب. كما أن هذه الاختبارات لا يمكنها أن تقدم لنا قياسات دقيقة لذكاء هذا أو ذاك. ولا جرم أن اعتبار الذكاء المحدد الأساسي لقيمة الشخص، فيه نوع من التسرع. فما الإنسان لو كان ذكاء فحسب، أي قدرة على التكيف مع الواقع فقط؟ إننا لنضرب بهذا القول المشاعر الإنسانية والقدرات الإبداعية، التي لا يمكن قياسها، عرض الحائط. إننا بحاجة إلى ذلك المتعلم الذي يأبى أن يظل سجين البحث عن أجوبة للإشكالات المطروحة عليه، بل ويبحث في مصداقية هذه الإشكالات نفسها ويكسر بذلك أي نموذج أو نسق أو سلم تنقيط مسبق. شخص يتمتع بكامل حريته الإبداعية بعيدا عن هواجس البحث عن تقنيات صيد النقط.
وختاما، فإن الحصول على نقطة جيدة في اختبار ما، قد يمنح المتعلم شعورا مؤقتا باللذة والدعة، ويجعل منه متعلما طيّعا يسعى إلى لذة أخرى. إنه لا يشعر بمتعة الطريق، بل يعيش من أجل لحظة ما من المستقبل. في منهج التقويم هذا، استعباد للأرواح ومحق للطفولة. فتجد الطفل لا يعيش حاضره وإنما يعيش من أجل الحصول على شهادة الباكالوريا والحصول على وظيفة. ووحده توجيه الدفة من هذا المنهج إلى منهج آخر يجعل من التعليم والتعلم غاية في ذاته، مفعما بالإبداع؛ ما من شأنه أن يفجر شعور المتعلم بالفرح وأن يراكمه على طول طريق التعلم المبدع والمرح.
أحسنت صديقي كلام في صميم