قضايا استراتيجية في إصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي خلال 25 سنة من حكم جلالة الملك محمد السادس نصره الله
د. خالد الصمدي، كاتب الدولة المكلف بالتعليم العالي والبحث العلمي سابقا
ظل ورش إصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي على الدوام في صلب الاهتمام الملكي منذ توليه العرش ، ويتجلى ذلك في حضور هذا الموضوع باضطراد في جل الخطب الملكية من جهة ، وتتبعه حفظه الله لهذا الورش بتوجيهات دقيقة ومباشرة في رسائله الموجهة لمختلف الفاعلين في مناسبات متعددة حتى تتمكن من تسريع وثيرة الإصلاح وتحقيق أهدافه.
وهكذا استهل جلالة الملك حفظه الله ورش إصلاح التعليم بإقرار الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي أعدته اللجنة الخاصة بالتربية والتكوين التي عينها المرحوم بكرم الله جلالة الملك الحسن الثاني ، حيث قال جلالته في خطاب العرش 1999 “تشغل قضية التعليم حيزا كبيرا من اهتماماتنا الآنية والمستقبلية لما تكتسيه من أهمية قصوى ولما لها من أثر في تكوين الأجيال وإعدادها لخوض غمار الحياة والمساهمة في بناء الوطن بكفاءة واقتدار وبروح التفاني والإخلاص والتطلع إلى القرن الحادي والعشرين بممكنات العصر العلمية ومستجداته التقنية وماتفتحه من آفاق عريضة للاندماج في العالمية. ، واعتناء من والدنا المكرم بهذه القضية فقد كان عين لجنة وطنية خاصة عملت تحت رعايته السامية مستنيرة بالتوجيهات التي تضمنتها رسالته الملكية في هذا الصدد.، وقد توجت اللجنة جهودها الحميدة بوضع مشروع ميثاق للتربية والتكوين كانت تتأهب لعرضه على أنظار والدنا المقدس لولا أن الأجل وافاه.. وسنلي هذا المشروع ما هو جدير به من عناية تتناسب وما نعلق عليه من ءامال في هذا المجال الحيوي وفي التغلب على البطالة ومحو ءاثارها وفتح أبواب الشغل مشرعة أمام شبابنا الناهض وحثهم على الاجتهاد والابتكار وأخذ المبادرة في غير توان أو تواكل.” وتجسيدا لهذه الإرادة الملكية جدد جلالة الملك التأكيد في خطاب العرش بتاريخ 30 يوليوز 2000 على” قراره السامي بإعلان العشرية القادمة عشرية خاصة بالتربية والتكوين وثاني أولوية وطنية بعد الوحدة الترابية “.
وفي هذا الإطار فتح المغرب أوراشا كبرى تتعلق بصفة خاصة بتعزيز هوية المنظومة التربوية الوطنية في عمقها التاريخي والحضاري والديني ، والعمل على تعميم التمدرس الإلزامي ، ومحو الأمية ، وربط التكوين بالتشغيل ، وتوسيع الخريطة الجامعية الوطنية في إطار الجهوية المتقدمة ، وإعادة هيكلة البحث العلمي، وتوسيع بنياته والرفع من الاستثمار فيه ، وهو ما أحدث نقلة نوعية في مسار الإصلاح بعد تعبئة مختلف المتدخلين وتعبئة الموارد المالية اللازمة ، ورغم الإكراهات التي واجهت هذه الأهداف والمشاريع الطموحة والتي تم تدارك بعضها من خلال البرنامج الاستعجالي 2009- 2012 فإن جلالة الملك ظل مؤمنا بمركزية هذا الورش في قيادة المشروع التنموي للمغرب على مختلف الأصعدة حيث دعا المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي فور تنصيبه سنة 2013 إلى إعداد تقييم شامل لتقدم الإصلاح ورصد الإخفاقات والصعوبات ، وقد كشف هذا التقرير على أن عدم تحويل الميثاق إلى قانون جعل الكثير من غاياته تضل مع اقتراح رؤية استراتيجية لإصلاح شمولي لمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي في أفق 2030 ، وقد استقبل جلالته مكتب المجلس الأعلى الذي تشرفت بعضويته لتقديم هذه الرؤية لجلالته فأمر بتجويلها إلى قانون إطار ملزم لجميع الحكومات المتعاقبة ضمانا للتراكم والاستمرارية ، وبالمصادقة على هذا القانون بغرفتيه سنة 2019 يكون المغرب في عهد جلالته حفظه الله ومن خلال متابعته الدقيقة لهذا الملف قد أخرج إلى الوجود أول قانون إطار لإصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي في تاريخ المغرب منذ الاستقلال ، وهي خطوة كبرى على مسار الإصلاح مكنت ولله الحمد من فتح أوراش كبرى في العشرية الأخيرة تمثلت في :
الوصول إلى هدف تعميم التمدرس للأطفال دون خمس سنوات مع تقوية برامج الدعم الاجتماعي والنقل المدرسي وخاصة في العالم القروي ، وفي هذا الصدد يقول جلالة الملك في خطاب العرش 2018 وحتى يكون الأثر مباشرا وملموسا، فإني أؤكد على التركيز على المبادرات المستعجلة في المجالات التالية : أولا : إعطاء دفعة قوية لبرامج دعم التمدرس، ومحاربة الهدر المدرسي، ابتداء من الدخول الدراسي المقبل، بما في ذلك برنامج “تيسير” للدعم المالي للتمدرس، والتعليم الأولي، والنقل المدرسي، والمطاعم المدرسية والداخليات. وكل ذلك من أجل التخفيف، من التكاليف التي تتحملها الأسر، ودعمها في سبيل مواصلة أبنائها للدراسة والتكوين…”.
إطلاق استراتيجية تعميم التعليم الأولي وإدماجه في التعليم العام مع إيلاء أهمية خاصة للعالم القروي وفي هذا السياق بعث حلالته برسالة سامية إلى المشاركين في اليوم الوطني للتعليم الأولي المنعقد تحت الرعاية الملكية السامية بمدينة الصخيرات يوم 18 يوليوز 2018 قال فيها ” إذا كان المغرب قد قطع خطوات هامة في مجال التعليم الأساسي، والرفع من نسبة التمدرس، إلا أن التعليم الأولي لم يستفد من مجهود الدولة في هذا المجال، حيث إنه يعاني من ضعف ملحوظ لنسب المستفيدين ومن فوارق كبيرة بين المدن والقرى، ومن تفاوت مستوى النماذج البيداغوجية المعتمدة، وعدد المربين والمعلمين، وكثرة المتدخلين. ولرفع تحدي إصلاح المنظومة التربوية، فإن التعليم الأولي يجب أن يتميز بطابع الإلزامية بقوة القانون بالنسبة للدولة والأسرة، وبدمجه التدريجي ضمن سلك التعليم الإلزامي، في إطار هندسة تربوية متكاملة. كما يتعين إخراج النصوص القانونية والتنظيمية المتعلقة بتأطير هذا التعليم، وفق رؤية حديثة، وفي انسجام تام مع الإصلاح الشامل الذي نسعى إليه، واعتماد نموذج بيداغوجي متجدد وخلاق، يأخذ بعين الاعتبار المكاسب الرائدة في مجال علوم التربية، والتجارب الناجحة في هذا المجال”.
إطلاق الاستراتيجية الوطنية لتكوين الأطر التربوية والتي حظيت بمباركة جلالة الملك والتي تهدف إلى تكوين 200 ألف إطار في أفق 2028 مع إحداث جيل جديد من المدارس العليا للتربية والتكوين في ست جهات هي القنيطرة وسطات والجديدة ووجدة وأكادير وبني ملال وذلك في إطار توفر كل جهة على مدرسة عليا للتربية والتكوين ومركز جهوي لمهن التربية والتكوين ، وفتح مسار التكوين على خمس سنوات أمام الحاصلين على شهادة الباكالوريا ، وذلك يهدف تعزيز قطاع التربية الوطنية بالأطر التربوية والإدارية المؤهلة.
إطلاق استراتيجية تقنين وتنظيم وإعادة هيكلة التعليم العتيق وتقوية بنياته وتعزيز انفتاح برامجه ومناهجه منذ صدور قانونه التنظيمي 00-13 ، ليصبح مشتلا لتكوين الأطر الدينية والعلمية المؤهلة للانخراط في تدبير الشأن الديني في ظل إمارة المؤمنين سواء في المحالس العلمية أو المندوبيات الإقليمية والجهوية لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ، وفتخ معاهد الأئمة والمرشدات لاستقطاب وتكوين تلاميذ وطلبة من خارج المغرب وخاصة من البلدان الإفريقية في إطار سياسة تعزيز العلاقات مع هذا المحيط الذي تجمعه بالمغرب قواسم تاريخية وحضارية ولغوية ودينية متينة.
في إطار استراتيجية وطنية ومندمجة للتكوين المهني تم إطلاق مشروع مدن المهن والكفاءات في جميع جهات المملكة ذلك في سيق خارطة الطريق المقدمة إلى جلالة الملك من طرف المكتب الوطني للتكوين المهني بتاريخ 4 غشت 2019 والتي بموجبها تم إطلاق مشروع إحداث مدينة للمهن والكفاءات في كل جهة 12 مدينة على الصعيد الوطني بمبلغ مالي قدره 3،6 مليار درهم على مساحة 15 هكتار لكل مدينة تضم مختلف المهن الصناعية والغذائية والتقنية والطبية والرياضية والسياحية والنقل واللوجستيك وغيرها من المهن ، وقد تم افتتاح هذه المشاريع في كل من جهة أكادير والعيون والرباط وطنجة ووجدة وبني ملال وخنيفرة والدار البيضاء.
في إطار دعم التكوينات الطبية وضمان حق المواطنين في الصحة تم إطلاق مشروع وطني كبير يتمثل في إحداث كلية الطب ومستشفى جامعي في كل جهة ، وفي هذا السياق تم افتتاح ثلاثة مشاريع كبرى بكل من طنجة وأكادير والعيون وإطلاق مشاريع بناء أخرى مماثلة في كل من بني ملال والراشيدية وكلميم وإعادة هيكلة المدينة الطبية ابن سينا بالرباط وذلك لاستكمال الخريطة الوطنية لكليات الطب والمستشفيات الجامعية على الصعيد الوطني.
توسيع الخريطة الجامعية الوطنية لتشمل جل الجهات وجل المدن المتوسطة في إطار سياسة القرب ودعم التشغيل والتنمية ، حيث تم توسيع العرض الجامعي في كل الجهات في إطار تعزيز العدالة المجالية من حلال إحداث قطب جامعي مندمج ومتعدد التخصصات في كل جهة ، وفي هذا السياق تم إحداث مؤسسات جامعية جديدة في عدد كبير من المدن المتوسطة، وفي سياق تنويع العرض الجامعي كما تم إحداث جيل جديد من الجامعات الشريكة كجامعة محمد السادس ببنكرير والجامعة الدولية بالرباط والجامعة الأرومتوسطية بفاس ، كما عرف قطاع التعليم العالي الخاص تطورا ملحوظا في المدن الكبرى كالدار البيضاء ومراكش وأكادير وهو ما مكن من توفير عرض بيداغوجي متنوع في عدد من التخصصات التي كان عدد من التلاميذ المغاربة يضطرون إلى متابعتها خارج المغرب.
استراتيجية وطنية لدعم البحث العلمي ببنيات ضخمة ومستدامة ومنها :
إطلاق سفينة للبحث العلمي البحري التي شرع المغرب في بنائها، منذ سنة 2017، بتعاون مع اليابان ، وقد أطلق عليها الملك محمد السادس إسم سفينة الحسن المراكشي،تكريما لذكرى عالم الرياضيات والفلك المغربي أبو علي الحسن بن علي بن عمر المراكشي، الذي عاش في عهد الموحدين بمراكش خلال في النصف الأول من القرن السابع الهجري، والذي يعتبر أول من وضع خطوط الطول وخطوط العرض على الخريطة ، وقد رست السفينة الحديثة المتخصصة في الأبحاث وعلوم المحيطات و مصايد الأسماك، صباح اليوم الأحد 14 مارس 2021 بمثلث الصيد بميناء أكادير إذ يراهن المغرب على تعزيز البحث العلمي في مجال الصيد البحري، متوفرة على أحدث التقنيات، من قياس المحيطات، وسبر أعماق المحيط، وتحديد حجم الموارد البحرية بالصدى الصوتي. كما ستدعم السفينة تقييم ورصد الموارد البحرية، وجمع المعلومات البيئية البحرية، لتطوير المعرفة العلمية.
إطلاق القمر الاصطناعي محمد السادس سنة 2018 بهدف رسم الخرائط ومراقبة النشاط الزراعي ومراقبة التغيرات البيئية ومراقبة حدود المملكة والمنطقة الساحلية والقيام بعمليات الرصد والاستطلاع بدقة عالية.
توفير بنية متطورة لمعالجة البيانات الضخمة بالمركز الوطني للبحث العلمي والتقني سنة 2018 وقد مكنت هذه البنية من دعم مراكز البحث العلمي على الصعيد الوطني ، ومعالجة وتوفير المعطيات ذات الصلة بالاستثمار والمقاولة وصيانة الموارد الطبيعية الوطنية ، وصيانة المعطيات من أجل الرفع من عدد براءات الاختراع، مما انعكس إيجابا على هذا المجال وعزز من حضور الابتكار المغربي في السوق الوطنية والدولية وسيسرع من وثيرة إرساء علامة صنع في المغرب ،ويعزز العلاقات العلمية مع المحيط العربي والإفريقي والأوروبي.
استراتيجية الربط بين التكوين وحاجة سوق الشغل من خلال إحداث مدن الابتكار وحاضنات المقولات في كل الجامعات المغربية بتعاون بين قطاعات التعليم العالي والبحث العلمي والتجارة والصناعة وباقي القطاعات الأخرى والقطاع الخاص ، والتي تمكن من احتضان الباحثين من طرف المقاولات وتحويل الابتكار إلى استثمار ، في إطار تعزيز علاقة الجامعات بمحيطها الاقتصادي والاجتماعي والتنموي.
وهكذا يتوفر المغرب اليوم ولله الحمد طبقا للتوجيهات الملكية السامية على خارطة طريق واضحة مؤطرة بالقانون الذي جاء كما قال جلالته ليقطع مع الإصلاح وإصلاح الإصلاح وليضمن الاستمرار والتراكم على المدى المتوسط والبعيد.
وبهذا نكون قد أشرنا بعجالة والمغرب يحتفل بالذكرة 25 لعيد العرش المجيد إلى الاستراتيجيات الكبرى التي عرفها المغرب في إصلاح وتطوير قطاع التربية والتكوين والبحث العلمي خلال ربع قرن من جلوس جلالة الملك على عرش أسلافه المنعمين ، بغض النظر عن الدخول في التفاصيل الإجرائية التي تطبع السياسيات العمومية اليومية لتدبير هذا القطاع الذي جعل منه جلالة الملك لازمة خطبه ومرتكزها باعتباره قاطرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ، وأسا من أسس إرساء النموذج التنموي الجديد الذي سيجعل من المغرب بلدا للاستقرار والأمن والتنمية المستدامة ، نموذج مؤطر برؤية متبصرة على المدى المتوسط والبعيد ، خاصة وأن المغرب مقبل على استحقاقات إقليمية ودولية تقتضي التوفر على إمكانات ومؤهلات بشرية مؤهلة وموراد مادية مستدامة وترسانة قانونية وتنظيمية ميسرة يستطيع معها رفع التحديات الهوياتية والقيمة ، وتثبيت موقعه في محيطه التنموي الإقليمي والدولي.