الوزير بالمغرب بين السياسي المصلح و”رجل الدولة”

 

حفلت الحياة السياسية المغربية ولا تزال بالعديد من صور وأنماط وحالات لتقاعد السياسيين من مرتبة وزراء ناضلوا في أحزاب عرفت بالوطنية الإصلاحية وخاضوا فيها وبها صولات وجولات مع محيطهم السياسي العام، ودافعوا خلال مسيرتهم الحزبية والسياسية خلال فترات المعارضة عن أطروحات اعتبروها أطروحات وشعارات لا محيد عنها لمشاركتهم في الميدان السياسي والنضالي في البلد وجزء من برنامجهم الوطني الإصلاحي الذي يرومون تطبيقه إن هم حصلوا على التفويض الشعبي والتعيين الملكي لتسيير شؤون الدولة، وكثير من هؤلاء أصبحوا على وضع جديد بعد دخول التمرين الحكومي والقرب من مربع الحكم أضحت معه أحلامهم السابقة أقرب إلي السفه منها إلى طموحات ومتمنيات حالمة تستوجب التحقيق ويطلب النضال من أجل تنزيلها، بسبب نزوع العديد من المناضلين “الوزراء” إلي الانطواء على الذات والتسليم بطريقة حكم الدولة وعفاريتها وتماسيحها دون أدنى اعتبار للبرنامج الحزبي الذي صوت الشعب عليهم لتنزيله خاصة مع دستور 2011 الذي يوصف بالمتقدم في ما يخص الحريات والحقوق والفصل بين السلطات، وهذا لا يرجع فقط للتأثر بتاريخ من الدائرية النسقية المؤطرة لمنهج الدولة المغربية في الحكم وترويض الأحزاب المنافسة لها في المجتمع وهي حالة طبيعية في كل نظام سياسي مختلط وغير منفتح تماما بل أيضا إلى نضوب معين النضالية لكثير من هؤلاء المناضلين “الرسميين” الذين يدخلون مربع الحكم الحكومي متناسين وعود أحزابهم حين تسطير البرامج السياسية وخوض المعارك الانتخابية وفحوى أوراقهم المذهبية وأطروحاتهم الفكرية، وهذه حالة عامة اشترك فيها وزراء العديد من الأحزاب الوطنية بدء بأحزاب الكتلة الديموقراطية خلال حكومة التناوب التوافقي الأولى والثانية ووزراء حزب العدالة والتنمية، خاصة في تجربته الحكومية الثانية التي كانت أكثر وضوحا في هذا الإطار.

 

فمتانة الأنظمة السياسية لأي بلد تستوجب توفر عناصر المجتمع السياسي من أحزاب وجمعيات سياسية وتنظيمات نقابية على أدوات المدافعة المستمرة لتحقيق التوازن المطلوب في كل مرحلة من مراحل تاريخه، ومناهج عمل تتجاوز التبجح بما هو مدون في الأطروحات السياسية للأحزاب وقوانينها وأوراقها حين انعقاد المحطات الحزبية والمحافل النقابية والجمعوية العامة أو في المعارضة بالبرلمان – تجاوز كل هذا- إلي تبني سلوك إصلاحي حقيقي في تدبير الشأن العام لحظة التواجد في التسيير الحكومي وقيادة حراك تنزيله إن لزم الأمر ومخاصمة الغرماء الحكوميين في سبيل ذلك كما فعل عبد الرحمان اليوسفي في لحظات معينة أيام حكومته وتبعه في ذلك الأستاذ عبد الإله ابن كيران أكثر من مرة أثناء قيادة حكومته بعد حراك 20 فبراير في تماش تام مع منطوق دستور2011 المتقدم نصا.

 

 

وهو منهج كثيرا ما يتم التغاضي عنه من قبل العديد من السياسيين الوزراء لصالح روتين وزيري حكومي غارق في الرسمية لا يبق ولا يذر، يبتعد فيه الوزراء عما عرفوا به في سابق عهدهم بين المناضلين وتتبدد مقولاتهم وشعاراتهم السابقة إلا فيما ندر ويزداد المشهد كآبة إذا ما حاول هؤلاء النفاذ إلى أجهزة الحزب التسييرية لحظات المؤتمرات بدعوى إسناد الحكومة المهلهلة الغارقة في التوفيقية بين القيم المختلفة والمرجعيات المتضاربة، منتصرين لمقولات التضامن الحكومي والدفاع عن أعضاء الحكومة أيا كانت المطبات التي أوصلوا البلاد إليها وأيا كان مسببوها وإن كانوا ممن اعتبروا سابقا سندا للفساد والاستبداد في عديد المناسبات.

 

 

إن تحليلنا هذا لا يجعلنا نغفل أن إكراهات العمل الحكومي بالمغرب موضوعية إلى حد كبير، بالنظر أولا إلي طبيعة الحكومة المغربية الائتلافية بالضرورة من الأصل والمنبع استنادا إلى النظام الانتخابي القائم لعقود منذ إعلان حالة الاستثناء، ثم للطبيعة الخاصة لجزء من المجتمع السياسي الوطني الذي شكل من قبل الدولة لحظات الصراع مع الاحزاب الوطنية وأغدقت عليه الأموال والإمكانات لجذب الأتباع والمناصرين وتكوين قاعدة اجتماعية ممتدة له خاصة في البادية المغربية والأوساط الشبه حضرية، إلا أن هذا ليس عذرا لمناضلي الأحزاب الوطنية في التكاسل وعدم التدافع لتجويد الممارسة السياسية الحكومية وتنزيل جزء مما وعدوا به شعبهم، والتمسك بأهداب الإصلاحية الوطنية المعلنة في بلادنا منذ تأسيس الحركة الوطنية والدفاع عن الخيارات الوطنية في وجه كل أشكال النكوص والتراجع عن الخيار الديموقراطي الذي نعيش أحد أحلك أيامه مع حكومة ما بعد الثامن من شتنبر.

 

 

إن الخبرة التاريخية البسيطة تؤكد أن قليلا من السياسيين الوطنيين بالمغرب الذي يحتفظ بجلده بعد مغادرة بيت التسيير الحكومي ويستمر في الدفاع عن مواقفه وأفكاره التي عجز عن تنزيلها أيام الاختبار، وهذا لعمري أقل ما يطلب من هؤلاء لبقاء جذوة الثقة في العمل السياسي والنضال الحقوقي متقدة في صفوف الشعب ومحاصرة اليأس والتيئيس من التغيير والإصلاح الذي تدفع به أوساطا مناوئة للخيار الديموقراطي، أما الأكثرية الباقية من هؤلاء فتتماهى مع وضعها الجديد مستندة لمآل تاريخي مرجعي ينتهي له الكثير من الوزراء المغاربة المتقاعدين الطامحين لمرتبة “رجل الدولة” “الداخل سوق راسو” المستقيل من العمل السياسي الحزبي والمعلن أنه على استعداد لخدمة وطنه ودولته خارج مضمار المجتمع السياسي متى طلب منه ذلكباعتبارها أعز ما يطلب من هؤلاء بعيدا عن المناكفات السياسية ولوائح الانضباط الحزبية واستفسارات الإخوة والرفاق وملاحظاتهم، ومدارج تكوين المناضلين على اختلاف صفوفهم (من الأول إلى…)الذين ينتظرون من يأخذ بأيديهم إلى بر الأمان،واصفين إكراهات تنزيل برنامجهم الإصلاحي ومعيقات عملهم الوزاري أيام العمل الحكوميباعتبارها منح ونعم وجب شكرها والتدثر بها في مواجهة الإخوة والرفاق، متناسين أن خصائص النظم الديموقراطية ومناهج تقييم الحكم الرشيد وأدواته تقييم عمل الحكومات متعالية عن الذوات الشخصية وغنية عن أي تفسير شارد قد يأتي من أحدهم خاض التجربة أو لم يخضها لأنها تستند لمرجعيات كونية وقواميس معرفية جرى تمرينها في تجارب دولية متراكمة منذ أكثر من عقوديسعي الجميع للنهل منها لتجويد ممارسته كما تقاس نجاعة النظم السياسية للدول والحكومات بمدى احترام إوالياتها لا للي أعناق نصوصها والتعذر بصعوبات التنزيل وما شابه واعتبارها عيوب في النظرية لا في واقع عمل الحكومات التسييري وجاهزية نخبها،

 

 

إن المطلوب من كثير من وزراءنا في مثل ظروفهم هاته كتابة مذكراتهم وإنارة الطريق أمام المناضلين الشباب وتحفيزهم على مواجهة الصعوبات التي قد تعترض طريقهم في تدافعهم المستقبلي مع غرمائهم تجويدا لنظام حكم بلدنا وتمتين مؤسساته، لا تثبيطهم بخرجات تسفه أمانيهم في الإصلاح وتخيب ظنونهم في السعي لبناء أوطان يعيش فيها الناس بكرامة متساوون في الحقوق والواجبات، وهذا أقل ما يطلب من الوزير في النظم المختلطة الشبيهة لنا التي تعج بعديد النماذج من رؤساء الحكومات والوزراء الذين عززوا صفوف الشعب _ولنا نصيب منهم بالطبع_في كثير من اللحظات الفارقة في تاريخ شعوبهم ومجتمعاتهم، فالإصلاحية نزعة وطنية ملازمة لأي مناضل وطني غيور علي بلده ورقيها وتقدمها وازدهارها لا شعار يرفع في المناسبات الانتخابية ثم يخفت لحظات الوصول للحكم.

 

 

 

بقلم: ددا يبيبوط، دكتور في التاريخ المعاصر، جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس

مقالات مرتبطة :

اترك تعليق