الصحة والتعليم في المغرب بين التفاؤل والتشاؤم

 

 

عثمان البية
باحث في سلك الماستر وأستاذ مادة الفلسفة

 

 

ليس بخاف ما طال المغرب من أحداث متوالية على مستوى قطاعي التعليم والصحة. هاته الأحداث التي لم ينتشر صيتها على المستوى المحلي فحسب وإنما على المستوى العالمي أيضا، خصوصا عندما نتحدث عن مسيرات ألفية رجت أرض العاصمة وعن المحاولات الجادة لتهدئة الأوضاع بكل الطرق؛ سواء بفض هذه التظاهرات أو باحتوائها. وباد ما لهذين القطاعين من بالغ الأثر والحساسية على المستوى الوطني. فتعطيل مرافق التعليم على فترات متقطعة ومفاجئة يعني تكثل أكثر من أربعة ملايين مراهق في جماعات خارج المؤسسات التعليمية. جماعات لا ضابط لها ولا شغل، وبالتالي لا يمكن التنبؤ بما قد تقوم به هذه الجماعات في أي لحظة. فيصير الوضع غير متعلق بالحق في التعليم فحسب وإنما بالأمن أيضا. وأما عن تعطيل مرافق الصحة على المستوى الوطني، فمن شأن ساعة واحدة أن تكون حاسمة في حياة أو موت المئات أو أكثر. وبالعودة إلى تجارب البلدان التي قامت من الحضيض إلى مصاف البلدان المتقدمة، فإنه ليكاد يُجمع الناس، متعلمين كانوا أو أميين أو مفكرين، على ما لهذين القطاعين من دور نووي في مصير أي بلد. فأي وضع هذا الذي يعيشه المغرب اليوم خصوصا عنما نتحدث عن التعليم والصحة؟ أهو وضع يدعو إلى التفاؤل أم التشاؤم؟ وهل هذه التظاهرات والاحتجاجات تعبر عن استتباب النظام على مستوى هذين القطاعين أم تعبر عن فوضى عارمة قد تؤدي إلى تفلت زمام النظام في أي لحظة؟ وكيف يمكننا الاستفادة من الوضع على نحو ما يخدم المملكة بجميع أفرادها؟

 

 

ضرير ذاك الذي قد يتفاءل مما عليه الوضع في التعليم والصحة اليوم. فلسان حال كل حكومة يهمس أن هدئوا الأمور إلى أن تمر فترة حكومتنا بسلام، تؤثر كل حكومة المهدئات والمنشطات على التشخيص والعلاج الفعال. فتتراكم الملفات والمطالب إلى أن يتعسر البث فيها وإلى أن يصير أعسر منه تهدئة الأوضاع مجددا، فتزداد تعقيدا بعد كل سنة. والأدهى من ذلك أن قطاعي الصحة والتعليم يمسان كل أسرة على حدة دون استثناء. لكن عندما يقول قائل إن الوضع مرعب كل الرعب لما يعمّه من فوضى، فما الذي قد يعنيه من الفوضى وما حقيقتها؟ بل وما النظام ذاته؟

 

إذا علمنا أن الذي لا يستبشر خيرا بواقع الصحة والتعليم بالمغرب أو بواقع المملكة عموما، إنما ينطلق من الوقائع الماثلة بين يديه؛ حق علينا الاعتراف بأن موقفه استنطاق لواقع الحال وتشخيص له أكثر منه تشاؤما. لكن إذا ما أعدنا النظر في هذا الواقع محاولين موقعته بين النظام والفوضى، وجدناه أقرب إلى الفوضى منه إلى النظام. إذ هو واقع متوتر وغير مستقر ويعرف تحولات تكاد تكون جذرية ومتتالية على مستوى القوانين التنظيمية، ويعرف تباينا على مستوى الحلول المقترحة وتضاربا في الآراء واختلافا فكريا وتدافعا يتجاوز العنف المعنوي والعنف اللفظي إلى العنف المادي مثل الاقتطاعات من الأجور والضرب واستعمال خراطيم المياه لفض التظاهرات… كما أن واقعهما (الصحة والتعليم) اليوم هو واقع الأزمات المتتالية التي لا تكاد تنضبط لضابط من جهة إلا ويعتريها الخلل من جهة أخرى.

 

 

وحري بنا أيضا، إذا ما أنعمنا النظر في مفهوم الفوضى، أن نقول أنها غياب النظام أو أنها بالتعريف هي اللانظام، لكن أي نظام؟ إنه النظام الذي نتوقع أن نجده على أرض الواقع. هو تصور مسبق نأتي به معنا، من خلاله نقوم بمعايرة الواقع وتقييم مدى نظامه. وأنّى يكن مصدر تصورنا عن النظام فهو مصدر كلاسيكي مشكل سلفا، نجعل منه نموذجا مثاليا نقيس به مستوى النظام السائد في الواقع. ولذا فهو نموذج جاهز ليس فيه جدة أو إبداع. إلا أنه نموذج يبعث استتبابه في أرض الواقع على الطمأنينة والاستقرار. فهل تخلو كل فوضى من فتيل نظام أم أنها تخفي نظاما من نوع آخر؟

 

بناء على تعريفنا للفوضى أو اللانظام بأنها غياب لتصورنا عن النظام أو نوع من النظام هو المتوقع إيجاده في الواقع، فإنه من الممكن إيجاد نوع آخر من النظام خلف هذه الفوضى. نظام غير متوقع ولم يبحث عنه أحد. من يدخل غرفة شارلوك هولمز يجدها غارقة في الفوضى، والويل لمن يحرك قداحة من موضعها. هي غارقة في الفوضى نسبة إلى من يملك تصورا مختلفا عن النظام، لكن بالنسبة لصاحبها كل شيء مرتب في موضعه الذي ينبغي أن يكون فيه. ولنضرب بواقع التعليم في المغرب اليوم مثالا. بات جليا أن التعليم غارق في مستنقع الفوضى حتى الجبين: إضرابات، وحالات غش مسكوت عنها، وبنية تحتية هشة، وترتيب المغرب في ذيل اللاوائح العالمية من حيث جودة خدماته التعليمية والصحية، وإصلاحات لم تؤت أكلها إلى الحين… بيد أن رياحينا تزهر من تحت هذا المستنقع وتتنافس مع عباقرة العالم في كليات أجنبية (فمثلا 73/100 من الطلبة الأجانب المقبولين في مدرسة بوليتكنيك الشهيرة بباريس هم مغاربة). فبالرغم من استفحال ظاهرة الغش على نحو ملفت، وهي ظاهرة تعبر عن ضرب من الفوضى، لدرجة أنه أضحى من الصعب تسميها غشا إذ لم تعد احتيالا وخفية وإنما أمسى الجميع متواطئا فيه، فصار بمباركة الآباء وبعض الأساتذة والإدارة والوزارة… فصار علنا ولم يعد يتعفف منه إلا القلة، وهو ما ينقلنا إلى وجه آخر من أوجه هذه الفوضى طالت المستوى القيمي أيضا. غير أننا نجد أن هؤلاء الذين يحصلون على شهادة الباكالوريا بالغش إنما يشتغلون في مهن لا تتطلب معرفة بدروس الباكالوريا كأن يشتغلوا في القوات المساعدة أو في إحدى الشركات التي تتطلب جهدا جسديا لا فكريا. في حين أن أولئك الذين يجتازون الباكالوريا ويحصلون على المعدلات التي يستحقونها، يوفرون لأنفسهم فرص شغل أفضل، طالما أنهم تمكنوا من تجسيد الكفايات التي تخول لهم التكيف مع المجتمع ومواجهة مشاق الحياة. بينما يتابع نوابغ آخرون مسيرتهم الدراسية في جامعات أجنبية يشكلون فيها النخبة. إنك لن تجد طبيبا حصل على شهادة الباكالوريا بالغش في الامتحانات، لكنك ستجد طبيبا حصل على مهنته بالوساطة، وهي وجه آخر من أوجه الفساد والفوضى. يحكي أحد الأساتذة أنه تعرض لحيف وظلم من طرف أحد أفراد هيئة التأطير والمراقبة في إطار ما بات يعرف “بتصفية الحسابات الشخصية”، ولو لا أن تدخل مدرس آخر نال منصبه بالوساطة لما استطاع ذاك المدرس رفع الحيف عنه بالوساطة نفسها، الشيء الذي يساهم في تكافؤ موازين القوى على هذا النحو أو ذاك. إنه لفساد كبير، وإنها لفوضى عارمة، لأننا لا نجد ذلك النظام المثالي الذي نبحث عنه. في حين، يجثم خلف هاته الفوضى نظام من نوع آخر، يبتكر لنفسه كل الأساليب الممكنة ليضمن لنفسه الاستمرار. وحالما يضع الباحث سبابته على قواعد هذا النظام يصبح بينا ومكشوفا، ويصبح ضبطه ممكنا. خلف كل فوضى نظام، فإما أن يشكل هذا النظام لا وعي الفوضى وإما أن يكون واعيا بذاته. فإن تركناه يمكث في لا وعي الفوضى لعنّا الفوضى ولعنّا الفساد من حيث أننا مُساقون بهما وفيهما ومنتمون إليهما ومساهمون في إثرائهما، وإن فضحناه فُضحنا معه. لكن على الأقل تظل إمكانية العلاج متاحة، بعيدا عن تتويج عجزنا بكبش فداء نلقي باللائمة على ظهره.

 

 

وأخيرا اكتشفت إسرائيل استحالة تدمير حماس، وإنما كل ما يمكنهم فعله حيالها هو تحويلها. فما دامت حماس لا توجد في مكان محدد، وليست عبارة عن شخص أو جماعة وإنما هي فكرة وحركة؛ فإن القضاء على الأشخاص أو تدمير بعض الأمكنة لن يحقق تقدما طالما الفكرة حية. وهذه الخلاصة التي انتهت إليها إسرائيل متأخرة نجدها لدى سون تزو قبل آلاف السنين. بل ونجد لها نظيرا في الأساطير البابلية، إذ لم يكن لمردوخ (Murduk) أن يقضي على تيامات Tiamat)) وأن يدمرها، وإنما كل ما بوسعه فعله حيالها هو تحويلها وتوظيفها على نحو مبدع وخلاق، وذلك ما كان. إن تيامات تعبر عن ذلك الكائن المرعب الذي لا شكل ولا نمط له، أي أنها لا نظام مطبق يستحيل التنبؤ بخطوته المقبلة. لكن خلف هذا اللانظام، وخلف هذه الفوضى، يكمن نوع من النظام لم نعتده؛ نظام مبدأه الأساسي هو التنظيم الذاتي وفقا لما يلائم مجريات الأمور، نظام غير ثابت وغير مستقر بالمرة، وإنما هو متحول يطور من ذاته باستمرار. فلا نمط له يخول لأحد اكتشاف طريقة اشتغاله أو التنبؤ بخططه، بل هو التغير نفسه. وهو ما يجعل من القضاء عليه ضربا من المستحيل. إن حماس هي تيامات التي ترعب إسرائيل وتقض مضجعها، لكنها تيامات واعية بذاتها وتمسك زمام مصيرها. أما في حالنا نحن، فإن تيامات لم تع ذاتها بعد، هائجة ومتمردة ومتفلتة، إنها هذه الفوضى الغاشمة التي نعيشها اليوم على مستوى التعليم والصحة وعلى مستويات أخرى أيضا. وعبثا نحاول إخماد هذه الفوضى وتدميرها بصب جم غضبنا على شرذمة من الناس أو بضعة أشخاص.

 

ليست حضارة دجلة والفرات فقط من أدركت استحالة مقاومة الفوضى واستوعبت هذه القدرة الجبارة، وإنما الأمر نفسه نجده لدى الإغريق؛ فكل الكون بالنسبة لهم انبثق من رحم الفوضى. فوضى لم تنته بإبداعها لليل والظلام والعالم السفلي والأرض والحب وإلا لكان الإبداع انتهى عند هذا الحد، وإنما بدأت الفوضى مع بداية الإبداع، واستمر الإبداع والخلق مع استمرار الفوضى. فهؤلاء يتآمرون على والدهم وذاك يأكل أبناءه وهاته تكيد لذاك وهلم جرا. استتباب نظام معين بقواعد ثابتة في مجتمع من المجتمعات يعني توقف التاريخ، وسيادة الفوضى في مجتمع من المجتمعات يعني قدرة أكبر على الخلق والإبداع. لم تعرف أوربا تقدما بقدر التقدم الذي عرفته إبان حروبها، خصوصا الحربين الأخيرتين منها. الفوضى أرض خصبة للخلق والإبداع، وقد أدرك الغرب أيضا ذلك واستفادوا منه وجنوا ثماره، درسوا النظام القابع خلف الفوضى، حللوه واكتشفوا ثغراته وتجاوزوها. لذا فالفوضى لا تكون نافعة إلا إذا استحالت من كونها انفعالا ولا وعيا إلى كونها فعلا ووعيا، ينظم ذاته بما يخدم نموه وازدهاره. ولكم ألح جون بياجيه على دور الأزمات في التشويش على التوازن وخلخلته، ولكم ألح على دور عدم التوازن في تحقيق التقدم والنمو.

 

إذن معشر من تتأجج في نفسه الغيرة على بلده ودينه وثقافته، ألم يئن الوقت بعد لنوجه الدفة من مناقشة الأشخاص إلى مناقشة الأفكار؟ أو ليست مناقشة الأشخاص لصغار العقول؟ ليس عليك هداهم! ولكن عليك الإدلاء بدلوك. إن الحق يصدع بذاته، وحده الحق يصمد، والأكاذيب سرعان ما تمّحي. لنجند بعضنا. لنثري النقاش. لنذهب بالاختلاف إلى مداه. لم تكن الأرض يوما خصبة بقدر ما هي عليه اليوم. فلترق الحبر بدل إراقتك الدم، بهذا وحده تصير جديرا بأن تكون إنسانا.

 

 

 

مقالات مرتبطة :

اترك تعليق