“إن لم أعرض أعمالي إلا نادرا، قياسا إلى أكثر من 40 سنة من ممارسة التشكيل، فذلك راجع لكوني كنت أشتغل بحقل التعليم، الشيء الذي كان يأخذ مني وقتا كثيرا إضافة إلى أوضاعي الاجتماعية آنذاك والتي لم تكن تسمح لي بمزاولة موهبتي في ظروف مريحة أو على الأقل مناسبة.
من ناحية ثانية، كنت ولازلت أرسم بعقلية هاوي وليس محترف، أي أن عامل الوقت وما يترتب عنه من برمجة للمعارض والتواصل. لا ينال اهتماما من حيث أترك ذلك للظرفية المناسبة.
ثم إن الأروقة وقاعات العرض الرسمية منها والخاصة، لا تفتح أبوابها في جل الأحيان للفنانين الشباب الموهوبين بالسهولة المنشودة إن لم نقل أن هذا الباب يقفل في وجههم بدون تفسير”… بهذه الكلمات يحاول الفنان التشكيلي محمد لبيض، ابن مدينة سلا تبرير قلة مشاركته في المعارض التشكيلية رغم الخبرة التي راكمها منذ ما يزيد عن أربعة عقود.
لبيض، الذي يقيم حاليا معرضا للوحاته التي يجمع من خلالها بين مدارس مختلفة، بقاعة “BENYA ART” بالمركب التجاري الرباط مول المتواجد بحي أكدال بالرباط، يؤكد على أن “عدم الاضطرار للرسم من أجل كسب لقمة عيش ولو افتراضيا عامل إيجابي يجعل الفنان يتفرغ نسبيا للإبداع والبحث الجمالي الذي يجب أن يشكل كنه اهتمامه. فذلك يجعل منه أكثر صدقا وتعبيرا ويمكنه من احترام عشاقه ومتابعيه. لكن هذا لا يعني بالطبع أن الفنان المحترم يجب أن يتجنب سؤال المال وما إليه بل يشير إلى أن العلاقة بين الفنان والمال يجب أن تحافظ على توازنها دون طغيان الجانب المالي على الإبداع، الشيء الذي من شأنه أن يساهم في تمييعه ومسخه وتبخيس قيمته مع مرور الوقت”.
الفنان التشكيلي محمد لبيض الذي ولج عالم التشكيل بعد أن استهوته الألوان بعد مشاركته في مسابقة نظمتها جماعة سلا عام 1979، يعتبر نفسه فنانا تجريديا، لكون هذا الاختيار “جاء لتلبية رغبة صريحة في الاشتغال وفق بعد معاصر: المعاصرة في الفن التشكيلي بالنسبة للفنان الإفريقي المبدع والمثابر تساهم في التخلص من تلك النظرة الدونية والمغلوطة والمتعجرفة التي تزج بهذا الفنان داخل مجموعة من الكليشيهات والأفكار الجاهزة المتجاوزة.
كما أن له الحق في التألق على المستوى العالمي لكونه يملك نفس المهارات الفنية وربما أحيانا أكثر من تلك التي يتميز بها قرينه في الدول الغربية”، فيما يؤكد على أن “اللوحة يجب أن تنأى بعيدا عن الشعارات أو ما إلى ذلك لأن هذا ليس دورها ولنترك ذلك للملصقات أو الجرائد أو المقالات الفلسفية أو السوسيولوجية.
يؤكد محمد لبيض بخصوص نظرته إلى الفن التشكيلي أنه “من البديهي أن الحديث عن لوحة تشكيلية أو محاولة تحليلها، خاصة إن كانت تجريدية، قد تعتبر فيه شيئا من الإطناب تسوده أحيانا الغرابة أو تشوبه صعوبة إدراك المفاهيم، لأن اللغة كيف ما كانت، تجد مقاومة من طرف هذه اللوحة، أو الرسم… لأن المكونات والأدوات اللغوية تختلف تماما عن تلك التي تهم اللوحة التشكيلية، بمعنى آخر فالكلمات لا يمكن أن تحل محل الأشكال والألوان والمادة والتراكيب والخطوط التي تملأ مساحة اللوحة”.
وأبرز لبيض، أن إعجابه بعوالم الألوان يرجع إلى “رسوم جدته راضية بنت الحسين التي كانت تهتم كثيرا نظرا لطبيعة رسومها بالجانب الموضوعي أو المرجعي للوحة لكل واحدة موضوع خاص هنا صياد السمك، هناك حفلة زواج، في اللوحة الأخرى طقوس دينية، أو راعي الغنم إلى آخره. كنت حينها طفلا، وكذلك كنت أرسم، أشياء من خيالي كطفل بكل عفوية وحرية. بعدها بكثير، كانت أعمالي تبرز ولا تخفى تأثيرات متنوعة لفنانين مغاربة كالشرقاوي وميلود والغرباوي وفنانين أجانب مثل بيكاسو، ودالي، وكاندنسكي، وميرو، وبراك، وماتيو، لينطلق بعدها الاهتمام بالرسم والصباغة، حيث تطلب منه ذلك الوقت كثيرا لكي يعي أن العمل الإبداعي يمكن أن يصبح كشيء مستعجل، يستمد جذوره من حاجة التعبير عن إحساس يفرض نفسه أو ” تدوين” انطباع عابر، قبل أن ينقشع.
ليأتي بعد ذلك دور عمه ميلود لبيض لكي يتابع التعلم غير المباشر لفن الصباغة انطلاقا من تحضير لوازم الرسم، ومرورا باستخدام الألوان إلى البحث عن التوازن بين الألوان والأحجام والأشكال وكل ذلك خارج الإطار الأكاديمي أو المدرسي المقيد للروح الفنية البريئة والتلقائية.

يقول لبيض حول هذه المرحلة من مساره كفنان تشكيلي: كنت محظوظا بتواجد عدة كتب فنية ومجلات متخصصة في الفن والتصوير بتلك الشقة المتواضعة المتواجدة بمدينة سلا. كنت سعيدا عند تصفحها والتعرف على كبار الرسامين والتيارات والموجات الفنية العالمية. لقد نال الاتجاه السريالي اهتمامي كثيرا في فترة المراهقة، اكتشفت بعدها الأهمية البيداغوجية والتربوية لهذه الكتب والمجلات التي مع الأسف لم يكن لها حظ كبير في التواجد بالمكتبات المدرسية، وبالتالي نتج عن ذلك فقر فظيع فيما يخص الثقافة الفنية والجمالية لدى تلاميذنا.
الحسن أيت بيهي