نور الدين مفتاح يكتب: الوزيرة والملياردير
شاهد :
تغيرت ملامحها بشكل كامل، بدت وكأنها في حداد، جمعت شعر رأسها دون تصفيف، وانقبضت ملامح وجهها دون مكياج، مما جعل الوزيرة الوسيمة عادة أقرب إلى ذبول الذين أصابتهم مصيبة لا يعرفون للفكاك منها طريقا. هكذا ظهرت وزيرة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة ليلى بنعلي في نشاطين رسميين، عقب تفجر قضية صورة باريس الحميمية، الأول في المجلس الوزاري المنعقد في الدار البيضاء نهاية الأسبوع الماضي، والثاني بالرباط في نشاط وزاري.
لنبدأ من المبدأ. الوزيرة بنعلي بريئة إلى أن تتم إدانتها وليس العكس، وقرينة البراءة هاته لا استثناءات فيها. كما أن الحياة الشخصية للناس مجال مقدس يحرم اقتحامه، فهل ما يجري في هذه القصة يضرب هذه المبادئ؟ لا أعتقد ذلك. وفحوى هذه النازلة التي أخذت أبعادا عالمية، إن لم نقل إنها بدأت عالمية، يجعلها تدخل في إطار المسؤولية التي يتحملها الشخص العمومي أو الذي يدبر الشأن العام في المجال المستأمن عليه، حيث يتنازل عن جزء من حقه في حريته كأي مواطن، وعن جزء من حياته الخاصة. فحتى في قانون الصحافة المغربي لسنة 2016 نجد أن المادة 5 التي تحصن سرية مصادر الصحافي تؤكد أنه لا يمكن الكشف عن هذه المصادر إلا بمقرر قضائي، وفي حالتين: الأولى تتعلق بأمن الدولة والثانية هي التي تهمنا هنا وتتعلق بـ«الحياة الخاصة للأفراد ما لم تكن لها علاقة مباشرة بالحياة العامة». أما المادة 89 من الفصل الثالث فإنها تزيد من توضيح هذا التداخل بين الخاص والعام عندما تقول: «يعد تدخلا في الحياة الخاصة كل تعرض لشخص يمكن التعرف عليه وذلك عن طريق اختلاق ادعاءات أو إنشاء وقائع أو صور فوتوغرافية أو أفلام حميمية لأشخاص، أو تتعلق بحياتهم الخاصة، ما لم تكن لها علاقة وثيقة بالحياة العامة أو تأثير على تدبير الشأن العام».
ومن البداية أقول إن من دبّجوا بيان حقيقة السيدة الوزيرة لم يكونوا موفقين، بحيث أشهروا سلاح التهديد باللجوء إلى «المساطر القانونية دفاعا عن مصالح الوزيرة ومصالح الوزارة ضد كل من سيثبت تورطه أيا كان مركزه فاعلا أصليا أو مشاركا أو مساهما». فالقضية أصبحت قضية رأي عام في المغرب وأستراليا، وبالتالي الدفاع عن حقوق السيدة بنعلي – وليس مصالحها كما جاء في البيان – هو في تقديم المعطيات، وتبديد الشبهات، والتوضيح، والتواصل مع الرأي العام. وإذا كانت هناك من مبادرة لجبر الضرر، فيجب مباشرة أن تستهدف الصحف التي نشرت الروايات المتتابعة حول الموضوع، وعلى رأسها «ذي أستراليان» و«الديلي ميل» وغيرهما.
وملخص القضية أن صحيفة «الديلي ميل» البريطانية نشرت في 25 ماي الماضي صورة للملياردير الأسترالي أندرو تويجي فورست صاحب مجموعة «فورتيسكيو إنيرجي» وهو يقبل امرأة بالشارع العام بباريس، وبعد يومين فقط دخلت صحيفة «ذي أستراليان» على الخط لتضع للمرأة الغامضة بالصورة اسما وتدعي أنها وزيرة الانتقال الطاقي للمغرب السيدة ليلى بنعلي. وكتبت بعد هذا أربع مقالات بعناوين قاسية: «تويجي، الوزيرة المغربية والكثير من الطاقة المكبوتة» و«مخاطر لقاء وزيرة مغربية مع أندري فورست». بل إن هذه الصحيفة نشرت مقالين بعد صدور نفي بنعلي تتهكم فيهما على التكذيب.
كانت الشرارة قوية، بحيث أشعلت مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام في المغرب، وظل الصمت الرسمي هو سيد الميدان في موضوع حساس يرتبط بشبهة تصرف في مجال حميمي مرتبط بشكل وثيق بتدبير الشأن العام، مما ألهب التكهنات ووسع الخيال ورجح كافة الاحتمالات. ولم تتحرك الوزيرة إلا بشكل متأخر بإصدارها تكذيبا هو لوحده حكاية، بحيث عمم مرة أولى بلا ترويسة ولا توقيع ومرة ثانية بتغيير جملة فيه بلا توقيع، ومرّة ثالثة بالترويسة وخاتم الوزارة. هذا الارتباك غذى الشكوك وأساء للوزيرة من حيث أراد أن يلملم جراح الموضوع.
وإذا كانت السيدة الوزيرة قد نفت علاقتها بالصورة، فإنها لم تتكلم أبداً عن علاقتها المزعومة مع الملياردير أندرو فورست بشكل قاطع، ولا على أنها لم تلتق معه بباريس، خصوصا أنها كانت في نفس الأيام التي تحدثت الصحف الأسترالية على أن الصورة التقطت خلالها في مهمة رسمية بفرنسا. ولم تجب على تفاصيل أوردتها هذه الصحف حول الشارع الذي قد تكون سارت فيه مع أندرو والمعطف الذي نزعه ودثرها به، والفندق الفاخر الذي أقاما فيه. بطبيعة الحال هذه ادعاءات لا نملك دليلا عليها، ولكنها توضع أمام محكمة الرأي العام، والوزيرة مجبرة على الرد عليها، خصوصا أنها وردت في صحف دولية جرت العادة أن يحسب لها مسؤولونا ألف حساب، وليس في صحف وطنية يتعاملون معها بدونية.
هذه التفاصيل الحميمية مبررة بما أسلفنا أنه جزء من مسؤولية المدبر للشأن العام من رتبة وزير، فليس للأمر علاقة في هذا الموضوع بمكارم الأخلاق فقط، كما جاء في بيان حقيقة الوزيرة، ولكن له علاقة أيضا بـ «إذا ابتليتم فاستتروا». فلو صح ما جاء في الصورة لكان فضيحة بكل المقاييس.
من هذا الجانب الشخصي والحميمي، أستغرب مع المستغربين كيف فكرت الوزيرة في إصدار بيان حقيقة باسم الوزارة وليس باسمها الشخصي، مع أن هناك فرقاً شاسعا بين الوزير العابر والوزارة الباقية، ولماذا ستتحمل الوزارة كمنشأة معنوية وزر الدخول في معمعة شأن ذاتي؟
إن الدخول إلى المعترك السياسي ليس نزهة، فالصراع على المصالح والمواجهات الدائمة وتدبير الخلافات وربما العداوات مسألة طبيعية، ولهذا لا يمكن لمن خرج من مجال مجالس الإدارة الكبرى إلى كراسي الوزارة أن يشتكي الاستهداف، كما فعلت السيدة بنعلي في هذا الموضوع، بل على المسؤول أن «يحضي سوارو» كما يقول اللسان الدارج، وألا يسقط في ما يبهج خصومه، وإذا كان هناك من اختلق قصة مدمرة كهاته، فالحل بالنسبة للسيدة ليلى هو التدمير المضاد للاختلاق، أي منصة حقائق دامغة مضادة للاختلاق. وأول من كان يجب أن يستهدف بهذا الموضوع هي الصحف الأسترالية وخصوصا «ذي أستراليان». فاللجوء إلى القضاء الدولي حق مشروع بل في هذا الموضوع كان سيكون دليل قوة بالنسبة للوزيرة، ولكنها للأسف لم تقدم على مجرد إرسال بيان حقيقة لهذه الصحف التي يملكها أكبر مستثمر في مجال الإعلام على الصعيد العالمي روبرت موردوخ، الذي له مجموعات صحافية في القارات الخمس.
الوجه الثاني لهذا الموضوع هو الأخطر، ويتعلق بشبهة تضارب المصالح، فالملياردير الأسترالي أندرو فورست الذي يسير إمبراطورية يقارب وزنها العشرين مليار دولار، يستثمر في المجال الذي تشرف عليه الوزيرة بنعلي. فإذا كان قد بنى ثروته في قطاع التعدين فإنه اليوم يتحرك في مجال الطاقات البديلة، وهو مجال اسم وزارتنا للانتقال الطاقي، بل إنه دخل في شراكة مع المكتب الشريف للفوسفاط في أبريل الماضي من أجل استخراج الهيدروجين والأمونيا والأسمدة الخضراء.
والصحف الأسترالية غير متسامحة بالمرة مع فورست رغم أنه يعتبر من كبار العاملين في المجال الخيري، ولا يتعلق الأمر بحياته الشخصية فقط التي انفصل فيها عن زوجته بعد أكثر من 31 سنة من الارتباط، بل بنشاطه الصناعي أيضا واتهامه بالتهرب الضريبي. وهنا تتبعت هذه الصحف لقاءاته مع الوزيرة بنعلي في مؤتمر بلومبرغ للاقتصاد الجديد، وفي فبراير التقيا بمراكش والرباط، وقبلها بشهر التقيا بدافوس. بل سجلوا على «الكوبل» المفترض حتى لقاءهما بالسفارة الأسترالية بالرباط إحياء لليوم الوطني الذي رعته شركة فورست.
السلاح الوحيد الذي حملته وزيرة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة ليلى بنعلي في هذه القضية الثقيلة هو الصمت، لتترك الصحافة الأسترالية تصول وتجول، وتترك الرأي العام يضرب الأخماس بالأسداس. ولكن الأسوأ من صمت الوزيرة هو صمت الحكومة التي تنتمي إليها، في قضية ـ شئنا أم أبينا ـ أصبحت قضية سياسية بامتياز تحول أمامها الناطق إلى صامت باسم الحكومة، كما صمت حزب الأصالة والمعاصرة الذي تنتمي إليه بنعلي، أو الأصح الذي استوزرت باسمه دهرا قبل أن يصدر بيان تضامن عقب اجتماع لمكتبه السياسي حضرته المعنية بالقضية. وكل هؤلاء ومستشاريهم يعوّلون على حكم سوسيولوجي مسبق حول المغاربة: لا تطل أمد قضيّة يقيم عليها هذا الشعب الدنيا ولا يقعدها، حتى تخال أنها دائمة ولكنه ينساها في غضون أسبوع لينشغل بقضية أخرى وهكذا دواليك!
والذي لا يعرفه هؤلاء الدهاة هو أن البقعة في الثوب الأبيض إذا لم تنظف فإنها تظل بقعة، حتى ولو أدخلت إلى دولاب نظيف. فقليلا من الجرأة اتجاه صحافة موردوخ إن كنتم صادقين، أم أن الصحافة الوطنية هي التي تستحق جرجرتها أمام المحاكم من طرف وزراء؟! ما عليش.