نور الدين مفتاح يكتب: جنون الشرق الأوسط
إن الجانب التدبُّري في حادثة سقوط المروحية الرئاسية الإيرانية له دافع إنساني بعيد عن الجوانب السياسية، فإيران لها نظامها وشعبها وسيادتها وهم أدرى بشؤونهم، مثلنا نحن الذين اخترنا نظامنا ولنا سيادتنا التي ندبرها في إطار مؤسساتنا، ولكن حوادث هذا العالم تسائل ضمائرنا، وهذا ما يعلمنا إياه التاريخ الذي جعل العظماء ذكرى، وجعل الحضارات تصعد ثم تهوي، وجعل المجد في عنق من لم يطلبه، وترك الحبال في أعناق من أجرموا بحثا عن هذا المجد، وخلد الكبار وقزم من تكبروا وتجبروا، وفي النهاية ليس هناك من كبير ولا متجبر ولا قوي إلا الله عز جلاله، مالك الملك وكلنا إليه راجعون.
مجنون هذا الشرق الأوسط! منذ الأزل وهو محور العالم. كل الأنبياء كانوا فيه، كل الحضارات كانت في مهده، وكل المشاكل المشتعلة اليوم عالقة بتلابيبه، وفي الشهور الأخيرة، مع الحرب على غزة، تكاد معادلات العالم تتغير به. وعموما لا شيء يؤثر في عالم مركز القوة فيه موزع بين أمريكا والصين وروسيا وأوروبا إلا هذا المشرق الذي أُسدلت عليه ستائر التقهقر منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية.
بداية هذ الأسبوع كان هذا الشرق الأوسط على موعد مع حادث مأساوي ومثير في آن، فقد سقطت مروحية تقل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته أمير عبد اللهيان في ضواحي أذربيجان. وأمام ذهول العالم، ظلت فرق الإنقاذ تبحث عن حطام الطائرة والمسؤولين السامين لأكثر من 15 ساعة طرحت خلالها أسئلة محيرة: هل سبق أن كان هناك رئيس دولة مفقود في حادثة مهما كانت؟ وهل يمكن تصور مروحية رئاسية بدون تكنولوجيا قادرة على تتبعها ومعرفة أثرها في كل الأحوال؟ وهل يستقيم ما ذهب إليه البعض من أن الحصار على إيران هو الذي جعل مروحياتها وطائراتها تستعمل تكنولوجيا متجاوزة تعود للسبعينات؟ وهل هذه هي إيران التي تُعتبر قضية الغرب الأولى بسبب أدمغتها الذين يتهمون بالاقتراب من صناعة سلاح نووي؟ وكيف لطهران التي وصلت صواريخها ومسيراتها قبل أسابيع إلى إسرائيل بفضل التطور التكنولوجي أن تكون لها مروحية رئاسية بدون إمكانية استثنائية لمواجهة الأحوال الجوية السيئة، أو للعثور الفوري على الطائرة والرئيس وكبار المسؤولين في حالة الحادثة أو الكارثة؟
هذه أسئلة الحائر، أما أسئلة الجانح لنظرية المؤامرة، فإنه سيقول بأن تنقلات الرؤساء تكون محاطة بأكبر قدر من التأمين، أفليس أمر سقوط مروحية رئيسي مدبرا؟ ألن تكون هناك أياد عبثت بالمروحية بتكنولوجيا خارقة حتى توجع طهران التي لها أكثر من عدو وعلى رأسهم إسرائيل؟
عموما، كل هذه الفرضيات هي لحد الآن ضعيفة، ولو أن النظام الإيراني أعلن عن فتح تحقيق في الموضوع وأخضع جثث المسؤولين الكبار للتشريح، فالأهم أن رئيس دولة ووزير خارجيتها ومسؤولين وازنين لقوا حتفهم وهم في مهمة، فهل من درس؟
الدرس الأساسي من هذه الحادثة الاستثنائية هو التواضع، فلا رئاسة تدوم ولا إمارة خالدة ولا جاه يستمر ولا سلطة مهما علت تنفع. قد يكون الإنسان في ساعة هنا يتقاتل من أجل مغنم إضافي أو كرسي وثير، وفي ساعة موالية يكون في عداد الراحلين. هؤلاء الذين يخوضون الحروب الضارية يوميّاً من أجل الرئاسات والثروات والمكانات والمناصب، ويكفرون بكل المبادئ ويكسرون كل الحدود الأخلاقية ويدمنون الحروب الكبيرة من أجل القضايا الصغيرة، عليهم أن ينصتوا لمثل هذه الحوادث. فأن تضرّ الناس من أجل أن تنفع نفسك هو أكبر من سقوط طائرة، وأن تخون محيطك وتنافق وترتكب الكبائر القيمية من أجل كرسي أو لقب فهذا عين الإفلاس.
إن الجانب التدبُّري في حادثة سقوط المروحية الرئاسية الإيرانية له دافع إنساني بعيد عن الجوانب السياسية، فإيران لها نظامها وشعبها وسيادتها وهم أدرى بشؤونهم، مثلنا نحن الذين اخترنا نظامنا ولنا سيادتنا التي ندبرها في إطار مؤسساتنا، ولكن حوادث هذا العالم تسائل ضمائرنا، وهذا ما يعلمنا إياه التاريخ الذي جعل العظماء ذكرى، وجعل الحضارات تصعد ثم تهوي، وجعل المجد في عنق من لم يطلبه، وترك الحبال في أعناق من أجرموا بحثا عن هذا المجد، وخلد الكبار وقزم من تكبروا وتجبروا، وفي النهاية ليس هناك من كبير ولا متجبر ولا قوي إلا الله عز جلاله، مالك الملك وكلنا إليه راجعون.
هذا الشرق الأوسط المجنون يشهد اليوم واحدة من أبشع الحروب التي عرفها التاريخ. والذين يخوضونها يمكن أن نصنفهم في عداد عصارة عتاة مجرمي الحروب على الإطلاق، ولذلك لم يكن مستغرباً أن يصدر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية مذكرة طلب اعتقال نتنياهو، وهو واحد من أكثر رؤساء وزراء الكيان الصهيوني دموية، مع وزير دفاعه يواف غالانت.
وإذا كانت الذريعة عند هذه الحكومة الصهيونية المتطرفة هي ما جرى في 7 أكتوبر إثر قيادة حركة المقاومة لعملية داخل الأراضي المحتلة، فإن رد الفعل كان مضاعفا آلاف المرات، وها قد مرت ثمانية أشهر تقريبا ولم تزد عمليات البطش والتقتيل إلا تصاعدا، ودمرت المستشفيات وجوع الناس وجرفت المقابر ودكت الأحياء على رؤوس ساكنيها، وهناك استعداد لارتكاب المجزرة الأكبر في هذه الحرب باجتياح رفح التي نزح إليها أغلب الغزيين من الشمال.
هذا واقع لا يتعلق فقط بالفلسطينيين ولا بالعرب ولا بالمسلمين، ولكن تنفطر له قلوب المسيحيين واليهود واللادينيين، وكل إنسان سوي. أما الذين يجدون تبريرا لهذا الإجرام فهم بدورهم مجرمون بالمشاركة والتزكية واللا إنسانية، وإلا كيف نفسر مثلا دعوة السيناتور الأمريكي ليندسي غراهام حكومته لتمكين إسرائيل من قنبلة نووية تحسم الحرب في غزة كما حسمت أمريكا الحرب ضد اليابان بالنووي، وهي الدعوة التي أيدها وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو؟ أليست هذه الدعوات تحريضا على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية؟ أليست جنوب إفريقيا على حق عندما جرت إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية؟ هل بقي في هذا العالم عاقل أو راشد ليضع حدا لمنزلق يكاد يفجر خزائن الدمار الشامل؟
أعتقد أنه من هذ الشرق الأوسط المجنون يمكن أن يخرج السلام الدائم، ومنه يمكن أن تخرج الحرب المدمرة. كل التنازلات الخيالية قدمت لأمريكا ومرعيتها إسرائيل. زرع الكيان الصهيوني وقاد المذابح منذ 1948 وفي النهاية قبل الفلسطينيون بما يناهز 10٪ من فلسطين الأصلية، ورضوا بدولة موعودة في الضفة الغربية وقطاع غزّة. ولكن، لحد الآن، يقول بنيامين نتنياهو علانية إنه كان دائما ضد حل الدولتين، فماذا تريد إسرائيل؟ ما هو الحل؟ هل يستسلم الفلسطينيون ويغادرون إلى الشتات ليتركوا ما تبقى من أرضهم للمستوطنين؟ وحتى إن قلنا إن حماس ارتكبت ذنوبا لا تغتفر وهي في نظر الغرب «إرهابية» ولا يمكن أن تكون شريكا في السلام، فالسلطة الفلسطينية بدورها في رام الله يعتبرها نتنياهو علانية وجها آخر لعملة حماس، فيقتل المواطنين ويسجن الشباب في الضفة الغربية ويستولي على الأراضي، وأما القدس فحدث ولا حرج.
ماذا تريد أمريكا وإسرائيل وتوابعهما من هذا الشرق الأوسط؟ فحتى المعتدلون الذين اعتبروا أن تطبيع العلاقات مع إسرائيل سيكون في صالح القضية الفلسطينية أحرجتموهم وأسقطتم حجج اعتدالهم ووضعتموهم في الزاوية الضيقة. وأما المجابهون فإنكم تصنفونهم بلا تردد كمارقين وإرهابيين، فمن أين نأتي بحل لمشكلة قائمة؟ وهل القوة والبطش والوحشية حل؟
البعض يقول إن فلسطين لم يسبق أن وجدت في التاريخ أصلا، والبعض يعتبر أن إسرائيل لها حق إلهي في أرض الميعاد، والبعض لم يخرج من خيمة العزاء لأن ما جرى في هذه الحرب قطع شهر عسله مع تل أبيب، والشرفاء يقاتلون واحدا من أعتى الجيوش في العالم حافيي الأقدام نيابة عن أمة كاملة ومن أجل وطن مسلوب، فلا عاش خونة القضايا العادلة، ومنعدمو الضمير الإنساني.
والمجد للشعب الفلسطيني البطل.