نور الدين مفتاح يكتب: في مديح الحكومة
وللذين كانوا يتساءلون عن سرّ وجود كل هذه الأزمة في البلاد، ورغم ذلك تقدم الحكومة على مشاريع مكلفة وتسير سير الرفاه دون أن نشم أي رائحة للتقشف، فإن الصدمة ستكون كبيرة إذا عرفنا أن هذه الحكومة أقدمت على بيع «رأسمالها» بدعوى «التمويلات المبتكرة». فقد باعت أصول مستشفيات عمومية ومستوصفات وجامعات ومبان إدارية لمؤسسات من القطاع العام والقطاع الخاص أيضا، مقابل أداء كراء للمالكين الجدد! وجنت من ذلك لحدّ الآن ما يناهز العشرة ملايير دولار، وهذه خطوة خطيرة يمكن الاطلاع على تفاصيل خطورتها في غلاف هذا العدد.
صحيح أننا نعيش سنوات صعبة، قد نقول بالمبالغة إنها سنوات عجاف، وذلك بسبب جفاف غير مسبوق وتغير مناخي خطير، وحروب قلبت الدنيا من أوكرانيا إلى غزة، وتغير فظيع في العلاقات الدولية، بحيث أصبح عنوان العصر الأخلاقي أو اللاأخلاقي هو الكيل بمكيالين وسيادة منطق القوة بدل قوة المنطق. إلا أن كل هذا لا يبرر ما أقدمت عليه حكومتنا الموقرة منذ أن وصلت إلى قمرة القيادة، وكلفت بتدبير شؤون المغاربة في هذه الظروف الصعبة.
لقد عشنا تضخما خطيرا أدى ثمنه الشعب، بحيث وصل الغلاء إلى أرقام قياسية، ولم نسجل كنسبة نمو إلا ما دون 2٪ وفقدنا آلاف مناصب الشغل، وظلت أسعار المحروقات تلهب جيوب المواطنين دون أن يتدخل الجهاز التنفيذي كما فعل مثيله في دول عدة، مع الأخذ بعين الاعتبار تضارب المصالح في هذا الموضوع بحيث أن السيد رئيس الحكومة هو نفسه أكبر فاعل في مجال المحروقات. والأنكى أن هذا الرئيس عوقب من طرف مجلس المنافسة على الرغم من أن هذه العقوبة لم تكن بحجم الضرر، ولكن المهم هو رمزيتها.
وفي المجال الاجتماعي خرجت فيضانات بشرية للاحتجاج في مختلف القطاعات، وتميز تدبيرها الرسمي بالهواية والتخبط، وما جرى مع رجال ونساء التعليم سيبقى مسجلا في تاريخ العجائب، بحيث دبّجت الحكومة مرسوما لقانون أساسي أخرج الناس جميعا، وتوقفت الدراسة لشهور، وعاد هذا المرسوم بعد جولات ترقيعية من الحوار ليعدل وتهدأ الأمور.
وما إن هدأت الأوضاع في القطاع الاجتماعي الأول في البلاد، حتى أخرجت الحكومة طلبة القطاع الاجتماعي الثاني عن بكرة أبيهم إلى الشارع، وهم أطباء المستقبل الذين أريدَ لهم أن يدرسوا ست سنوات بدل سبع. وبدل حوار جدي ومسؤول، تصرّ الحكومة على إعادة الفيلم الرديء الذي جرى مع رجال التعليم، فتهدد وتوقف ثم تحاور وتقدم على مبادرات تصلح أن تكون عملا رمضانيا «حامضا» بحيث إن بعض كليات الطب طلبت من آباء أو أمهات الطلبة الحضور للضغط على أبنائهم، وكأن طالب الطب طفل في الروض! وللمهازل بقية.
جرى هذا مع المحامين والصيادلة ورجال الإعلام وغيرهم، وعنوان التدبير هو التسرع والاستسهال والرضى الغريب عن الذات. وحتى وإن بدأت المساعدات المباشرة تصل إلى المواطنين في إطار الدعم الاجتماعي، فإن أركان الدولة الاجتماعية المبشر بها ما تزال لحد الآن هشة. وكم يحز في النفس أن نجد أنفسنا في المرتبة 120 في سلم التنمية البشرية متخلفين حتى عن الجزائر وتونس، فيما السيد الناطق الرسمي باسم الحكومة يقول أن الحمد لله والشكر على أننا ربحنا ثلاث نقاط لأننا كنا في المرتبة 123 قبل هذا التصنيف الجديد!
إن تعميم الحماية الاجتماعية مهم، ولكن الانتقال من نظام المساعدة «راميد» إلى نظام الحماية «لامو» جعل أكثر من ثمانية ملايين مواطن خارج التغطية، بحيث كان عدد المستفيدين من النظام الأول هو 18 مليونا فيما عدد المسجلين اليوم في «لامو» لا يتعدى العشرة ملايين! ويضاف إلى هذا أن بنية الاستقبال الصحية جد هشة، والأطباء يهربون إلى الخارج، بل إنهم اليوم في إضراب غير مسبوق قد نصل فيه إلى سنة بيضاء بكليات الطب والصيدلة بالمملكة.
وللذين كانوا يتساءلون عن سرّ وجود كل هذه الأزمة في البلاد، ورغم ذلك تقدم الحكومة على مشاريع مكلفة وتسير سير الرفاه دون أن نشم أي رائحة للتقشف، فإن الصدمة ستكون كبيرة إذا عرفنا أن هذه الحكومة أقدمت على بيع «رأسمالها» بدعوى «التمويلات المبتكرة». فقد باعت أصول مستشفيات عمومية ومستوصفات وجامعات ومبان إدارية لمؤسسات من القطاع العام والقطاع الخاص أيضا، مقابل أداء كراء للمالكين الجدد! وجنت من ذلك لحدّ الآن ما يناهز العشرة ملايير دولار، وهذه خطوة خطيرة يمكن الاطلاع على تفاصيل خطورتها في غلاف هذا العدد.
العملية تمر في سرية تامة ولا يعرف عنها الرأي العام أي شيء، إضافة إلى أن البرلمان نفسه غير معني بها ما دامت الحكومة غير مجبرة على إطلاعه على هذا البيع لأصولها، عكس الخوصصة التي كان إجباريا أن تمر عن طريق البرلمان، أو الاستدانة العمومية! ولحد الآن، لا أحد يعرف مثلا بكم بيع المستشفى الجامعي ابن سينا بالرباط أو ابن رشد بالدار البيضاء، وما هي قيمة الكراء، ومن قيَّم ذلك، وكيف تمت هذه الصفقات؟!!
والأدهى والأمرّ أن الخبراء يقولون إن هذا البيع لممتلكات الدولة لا يمكن أن يغطي مثلا إلا سنتين على الأكثر من تكاليف الحماية والمساعدات الاجتماعية! فما الذي يمكن أن تبيعه الحكومة بعد ذلك؟ ومن سيحاسبها على هذا الإرث الذي ستتركه في عنق الأجيال القادمة؟!
هذا فعلا هو ما «نستاهل»! كان هذا هو شعاركم الجميل، ولكن في الواقع تبين أننا كنا على موعد مع الأسوأ، وهذه الأغلبية الصامتة اليوم والصابرة تدين هذا التدبير الذي يزيد الأغنياء غنى والفقراء فقرا! ويظهر هذا أكثر ليكذب خطاب «العام زين» إلا مع الجوائح والكوارث، فمع كورونا اكتشفنا أن بيننا 25 مليون فقير، ومع زلزال الحوز اكتشفنا أن ملايين الناس في العالم القروي يعيشون على هامش المجتمع بلا طرق صالحة ولا حتى فقر يليق!
العالم القروي بقي على الهامش رغم المخطط الأخضر والجيل الأخضر، فأين هي الطبقة المتوسطة القروية الموعودة، ورئيس الحكومة الحالي كان هو الوزير المكلف بهذا الملف في الحكومة السابقة؟ لماذا بدلنا الزراعات الموفرة للأمن الغذائي بزراعات تصديرية نصدر معها الماء الذي تحولنا فيه من الإجهاد إلى الندرة، حيث إن شبح العطش أصبح وجها لوجه مع المغاربة في أكثر من مدينة ومدشر؟! وحتى تدبير الصيد البحري الذي ينخره نظام الرخص الريعية يحس بنتائجه المواطن في السوق، فبلاد البحرين المتوسط والأطلسي لا يمكن فيها لثلثي المواطنين أو أكثر اقتناء الأسماك لغلائها الفاحش! والحكومة تتفرج وتفتخر بصمتها، وعدم تواصلها، ودفن أغلبية وزرائها رؤوسهم في الرمال.
وخارج أساسيات العيش للمواطنين، نرى أن التثقيف والترفيه بدوره مطبوع بنفس الطابع، بحيث إننا شهود في هذا الشهر الفضيل على واحدة من أفظع سنوات التعذيب الدرامي التلفزيوني، الذي صرفت عليه من المال العام أكثر من 12 مليار سنتيم هذه السنة. فما هو المشروع الإعلامي أو الثقافي لهذه الحكومة، اللهم إلا التفرج على ما يجري وارتجال بعض التصورات التي لا تحيي ولا تميت.
وأما عن المعارضة، فالحال يغني عن السؤال، فهناك تنافر غير مسبوق بين مكوناتها، وعندما بدأوا في التنسيق وتململوا وهم يتمتمون بملتمس رقابة مزعوم جاءت أقطابا منهم ضربة قاضية من المجلس الأعلى للحسابات، وخصوصا الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وفضحت ريع دراسات ذهب لذوي القربى فتحطم ما تبقى من سلطة معنوية لهذا التنظيم.
والمشكل ليس في اليوم، بل في الغد المنظور، ومن الآن نقول إنه إذا كانت هذه الحكومة بهذا الضعف في الأداء، فمن هو البديل في الانتخابات القادمة؟ صعب أن نجد جوابا يفتح نافذة أمل! سيُحكم على المغاربة أن يبقوا مع جزء من «شناقة» الانتخابات، وجزء من الضاحكين على الذقون، والجزء الأكبر هم سياسيو آخر ساعة الذي تطول أعمارهم بالفراغ حولهم. ولكن هذا لا يمنع من أن نقول مع الأغلبية الصامتة إن هذه واحدة من أسوأ الحكومات التي عرفتها المملكة، وبه الإعلام، والسلام.