الصفحات المنيرة من حياة المقاوم المغربي الراحل محمد بنسعيد آيت إيدر طافحة بالكثير من المواقف الجريئة التي تؤرخ مسارا حافلا يقارب قرنا من الزمن لمناضل صلب، قضى نصيبا وفيرا منه فاتحا صدره لرصاص الاستعمار ولمقاومة اللامعنى في السياسة، وظلَّ على امتداد سنواته الطوال مشغولا بقضايا وطنه ملتزما بهموم شعبه، لم يغب عن الأحداث التي عاشها المغرب، بما فيها تلك التي صادفته وقد وهن العظم منه وبلغ من العمر عتيا واشتعل رأسه شيبا، إلى أن فارق الحياة في السادس من فبراير الجاري.
على عكس سُنة ابتدعها طيف من السياسيين المغاربة ممن تقاعدوا عن الفعل السياسي وتواروا عن الأنظار راكنين إلى الصمت والجمود بمجرد فقدانهم المنصب أو تجريدهم من الصفة أو الحظوة؛ بقي اليساري آيت إيدر لصيقا بالجماهير الشعبية وانخرط في عدد من القضايا التي عاشها “مغرب العهد الجديد” والتي رأى في حملها امتدادا لما كان يؤمن به من مبادئ وقيم وتمثلات، ولعل أبرزها نزوله إلى الشارع بمعية شباب حركة “20 فبراير” عام 2011 للمطالبة بمغرب الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ومناصرة “حراك الريف” سنة 2016، ثم الدفاع لاحقا عن معتقليه والمطالبة بإطلاق سراحهم إلى جانب باقي مسجوني الرأي من صحافيين ومدونين.
يروي عبد العزيز النويضي المحامي والحقوقي ضمن كتابه “مذكرات مستشار للوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي دروس من تجربة التناوب وما بعدها” تفاصيل حدث يؤكد ما سبق الإشارة إليه، ويتعلق باقتراح حمَلَه هو شخصيا رفقة الأنثروبولوجي عبد الله حمودي إلى الراحل بنسعيد آيت إيدر عام 2018 لبدل مساع لدى الملك محمد السادس قصد مطالبته بالعفو عن قائد “حراك الريف” ناصر الزفزافي ورفاقه.
يحكي النويضي في كتابه قائلا: “فكَّرنا في أن يكون الطلب من رجلين من الطراز الأول اللّذين يجمعهما النضال من أجل الاستقلال مع النضال من أجل الديمقراطية، فوقع الاختيار على محمد بنسعيد آيت إيدر وعبد الرحمان اليوسفي”.
ويقول النويضي إنه اتصل بالأمينة العامة للحزب الاشتراكي الموحد آنذاك نبيلة منيب لتسهيل المأمورية ولقاء آيت يدر، فرحَّبتْ بالفكرة، وكذلك كان، حيث اجتمع أصحاب المبادرة بمعارض الملوك الثلاثة، فأبدى استعداده لمرافقة قائد تجربة التناوب التوافقي في طلب العفو عن معتقلي الريف إن قبل، بالرغم من أن مكانتهما لدى القصر ليست متكافئة.
النويضي، الذي عمل مستشارا للراحل اليوسفي عندما كان الأخير وزيرا أولا بين 1998 و2002، وظل على احتكاك به حتى بعد اعتزاله السياسة؛ أضاف ضمن شهادته: “اتصلتُ باليوسفي لتجديد الموعد الذي كنت أخذته معه سلفا، فأكد الرابعة عصرا”، متابعا: “وصلتُ رفقة حمودي في الموعد المحدد بدقة، وبعد كأس شاي في ركن بالصالون الكبير فاتحته في الموضوع فاستمع باهتمام كعادته وأخبرته باستعداد بنسعيد لمرافقته في المسعى. كان عرضي جد موجز لأنه بدا لي جد متعب”، وأكمل: “عندما تكلم فاجأنا بالقول: “انتوما فيكم البركة”. قلتُ في استغراب: “وهل لنا مكانتك وتاريخك ووزنك لدى جلالة الملك؟”، فأجاب: “أنا متعب ولم تبق لي إلا ثلاثة أيام لأموت”.
وخلص النويضي وهو يروي هذه الواقعة التي تلخص موقف رجلين لكل واحد منهما رمزيته الوطنية والحقوقية والإنسانية من التوسط لدى عاهل البلاد لطي ملف “أحداث الحسيمة” الشائك، أن آيت إيدر كان مرحبا بالمبادرة لكن تحفظ اليوسفي أجهضها. يقول مستشار الوزير الأول في بوحه: “حاول الأستاذ حمودي بدل مزيد من الترافع، وبعد جملتين ضغطتُ على يده لكيلا يستمر لمعرفتي أن اليوسفي قلّمَا يتراجع في مثل هذه الحالات. ودّعناه وعدنا أدراجنا إلى الرباط”.