شهر بلا خرائط
بالنسبة للمغرب، فنحن كنا معنيين أكثر بانقلاب الغابون، فالعلاقات بين الغابون والمملكة المغربية تحولت خلال أكثر من خمسين سنة إلى علاقات أسرية تجاوزت بكثير العلاقات السياسية، والراحل عمر بونغو تمغربَ بعد أن أسلم، وكان أقرب الرؤساء الأفارقة للراحل الحسن الثاني، حتى أنه أمر بخروج الناس للتظاهر في الشارع تأييدا لانطلاق المسيرة الخضراء سنة 1975 وبنى مسجدا يحاكي مسجد الحسن الثاني. وجاء بعده ابنه علي بونغو الذي اعتاد المغاربة رؤيته بالجبادور البلدي، وقد ظهر بهذا اللباس في آخر فيديو له وهو يستنجد بالمجتمع الدولي بعد الانقلاب عليه، وقضى 10 أشهر بالمغرب من أجل الاستشفاء بعدما أصيب بجلطة دماغية خلال زيارة له للمملكة العربية السعودية، وهذا غيض من فيض كاف ليظهر أن ما جرى في الغابون كان يُسمع في الرباط بمكبرات الصوت.
الاستثناء الوحيد في هذه العطلة هو أن سخونة شهر غشت كانت أعلى من درجات حرارة الأحداث، فقد كانت لكل صيف قضية رأي عام تملأ الدنيا وتشغل الناس.
ولكن اليوم، الطبيعة هي التي تضع الناس في امتحان وجود، فلم يسبق أن وصلت درجات الحرارة عبر العالم إلى المستويات التي نشهدها بسبب الاحتباس الحراري، والقادم صعب جداً.
إلا أن هذا لم يمنع الذين تيسر لهم الاستمتاع بقسط من الراحة من متابعة بعض القضايا هنا وهناك، في ظل تثاؤب سياسي واضح وعزوف بلياقة بدنية جيدة. وإذا كان الداخل قد عرف بعض القضايا المؤلمة كبيدوفيل مخيم الجديدة الذي استغل أطفالا انخرطوا في ناد لتعلم كرة القدم واستدرجهم ليتحرش بهم وهو الآن بين يدي القضاء، أو نصاب أكادير الذي استغل شهية الربح السريع لدى مواطنين ضحايا ليفرّ بالملايير، فإن الذي شد الأنظار أكثر هو ما قامت به الجزائر من مقامرة عندما تعاملت بدموية مع مواطنين فرنسيين مغاربة تاهوا بدراجاتهم المائية ودخلوا المياه الإقليمية للجارة المتشنجة، فإذا بحرسها يطلق النار فيُردي شابين على الفور ويعتقل ثالثا ويفر رابع!
رحم الله الضحايا، وألهم بلدا كاملا الصبر على جار متربص مندفع يقفز فوق القانون الدولي وقانون البحار ومعاهدة جنيف وهلمّ مواثيق، ويحاول في كل مرّة أن يفجر برميل الحرب. ولكن مهما كانت درجة الألم، فإن الحكمة أن نعتبر أن الانجرار إلى الفخ الجزائري سيكون أكثر إيلاما.
لكن، في هذا الغشت القائظ، كان الحدث خارج الحدود بامتياز، فبغض النظر عن استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا بكل أهوالها وتداعياتها العالمية التي تصل إلى جيوب المواطنين هنا، وتحقيق كييف لبعض الاختراقات للدفاعات الروسية، وقتل وحش عصابة «فاغنر» بريغوجين الذي تحدى بوتين فكان مصيره سقوط طائرته، فإن الذي شدنا أكثر هو هذه القارة التي توجد فيها جذورنا. إن إفريقيا اليوم تكاد تصبح بلا خرائط طريق، لقد حدث في شهر واحد انقلابان، الأول في النيجر والثاني كان أكثر إثارة لاهتمام المغاربة، وحدث في الغابون.
والمؤلم أنه منذ 2020 حدثت ثمانية انقلابات عسكرية في القارة، وبهذا تحتل إفريقيا الصدارة في عدم الاستقرار والتغيير خارج الشرعية. نعم، إننا قارة المستقبل بطموحنا ومواردنا الطبيعية والخزان الديموغرافي الشاب، إلا أن الحكم الديكتاتوري وتواطؤ النخب والفساد، كلها تضع الأسلاك الشائكة حول أحلام الشعوب. إنها مأساة، خصوصا عندما نقف أمام تغيير انقلابي يرفع شعارات براقة ثم ما يلبث أن يعيد التاريخ لتكون الإعادة أكثر مأساوية.
في النيجر كانت الأمور واضحة، هناك انقلاب مُدان لا غبار عليه ضد الرئيس محمد بازوم المنتخب ديموقراطيا، وقد وقفت ضده دول الإكواس وترفض فرنسا لحد الآن سحب سفيرها من نيامي بعدما طرده الانقلابيون، والغريب أن هناك دولتين إفريقيتين فقط كانتا مع الانقلاب، منهما الجزائر التي رفع أنصار الانقلابيين أعلامها في ملعب لكرة القدم تم الحشد فيه لتأييد العسكر! وأترك هذا بدون تعليق.
وأما انقلاب الغابون فهو أكثر تعقيدا بالنسبة للجميع، وقد ترددت فرنسا وغيرها بشأنه لسبب واحد وهو أن الانتخابات التي أعلن فيها فوز الرئيس علي بونغو كانت الأسوأ على الإطلاق في تاريخ البلاد. وباختصار، يمكن اعتبار ما يجري بداية نهاية ما يسمى بفرنسا الإفريقية. لقد كان غشت تتويجا لإهانة فرنسا ماكرون في إفريقيا، ولا أعتقد أن تعود باريس لنفس لياقتها كلاعب تاريخي في القارة السمراء.
بالنسبة للمغرب، فنحن كنا معنيين أكثر بانقلاب الغابون، فالعلاقات بين الغابون والمملكة المغربية تحولت خلال أكثر من خمسين سنة إلى علاقات أسرية تجاوزت بكثير العلاقات السياسية، والراحل عمر بونغو تمغربَ بعد أن أسلم، وكان أقرب الرؤساء الأفارقة للراحل الحسن الثاني، حتى أنه أمر بخروج الناس للتظاهر في الشارع تأييدا لانطلاق المسيرة الخضراء سنة 1975 وبنى مسجدا يحاكي مسجد الحسن الثاني. وجاء بعده ابنه علي بونغو الذي اعتاد المغاربة رؤيته بالجبادور البلدي، وقد ظهر بهذا اللباس في آخر فيديو له وهو يستنجد بالمجتمع الدولي بعد الانقلاب عليه، وقضى 10 أشهر بالمغرب من أجل الاستشفاء بعدما أصيب بجلطة دماغية خلال زيارة له للمملكة العربية السعودية، وهذا غيض من فيض كاف ليظهر أن ما جرى في الغابون كان يُسمع في الرباط بمكبرات الصوت.
الذي أذهل المتابعين هو حجم غنى هذا البلد الغرب إفريقي الذي حباه الله من النعم بما كان بإمكانه أن يجعل منه كويت المنطقة. فهو بلد بترولي وعضو بالأوبك، وهو منتج للمنغنيز وبه غابات تعتبر الثانية في العالم من حيث تنوعها، هذا في الوقت الذي لا يتجاوز عدد سكانه المليونين ونيف. فكيف يُعقل أن يكون ثلثا هذين المليونين فقراء؟!
المهم أن الغابون تكتب اليوم مصيرا جديدا غير بعيد عن حليف تاريخي هو المغرب، ما دام الرئيس الانتقالي الجديد «نغيما» درس بمكناس وكان ملحقا عسكريا بسفارة بلاده بالرباط، ومتزوج من مغربية، ويعتبر من العائلة الكبيرة لآل بونغو. وعموما، العلاقات الدولية تتعزز وتتقوى بالعلاقات الشخصية، ولكنها لا تكون أبداً رهينة لها، لأن الدفاع عن المصالح هي الأمانة المعلقة في رقاب من يحكمون.
قدرنا إفريقي، ولذلك، يعتبر هذا المخاض في القارّة السمراء مدعاة لانتباهنا الشديد، فالصراع على النفوذ على أشده في القارة بين الكبار، ومنهم فرنسا وروسيا والصين وتركيا والهند وإسرائيل، والمغرب قرر منذ عقود أن يكون لاعبا مهما في قارّته، وحين تكون المباراة على هذا المستوى العالي، فلا مجال إلا للاستعداد الدائم لمواجهة التحديات واعتبار تعزيز الإصلاحات في الداخل جزء من معركتنا في الخارج خصوصا وأن خصومنا يحاولون إمساكنا من جرح فتحوه ويريدونه نازفا، وهو وحدتنا الترابية. ولكن صلابة الجبهة الداخلية ضمانة لخدمة قضايانا المصيرية.
ودخول موفق للجميع.