يوميات عاصمة صحراوية
كنت أعتقد أنني جمعت من الذكريات في هذه الحاضرة ما يجعلني قادراً على التباهي الإيجابي بالحكي يوماً ما عما أعرفه عن هذه الديار التي عاشت واحداً من أقوى فصول التاريخ في المملكة. ولكن، بما أنني كنت مع أكثر من قيدوم راسخ في حديقة الذكريات والإعلام مثل ذ. الصديق معنينو، وذ. سعيد الجديدي، وذ. محمد برّادة، […]
كنت أعتقد أنني جمعت من الذكريات في هذه الحاضرة ما يجعلني قادراً على التباهي الإيجابي بالحكي يوماً ما عما أعرفه عن هذه الديار التي عاشت واحداً من أقوى فصول التاريخ في المملكة. ولكن، بما أنني كنت مع أكثر من قيدوم راسخ في حديقة الذكريات والإعلام مثل ذ. الصديق معنينو، وذ. سعيد الجديدي، وذ. محمد برّادة، فقد بدا لي ما كنت أعتقده ادخارا معتبرا مجرد فواصل على الهامش.
هؤلاء الأعزاء عندما وطئت أرجلهم أرض العيون المباركة، مع وفد الفيدرالية المغربية لناشري الصحف الذي وصل نهاية الأسبوع الماضي إلى عاصمة الصحراء، اشتعلت الذكريات، وهي ضاربة في القدم، منذ المسيرة الخضراء على الأقل، التي غطاها هؤلاء الرجال سواء للتلفزيون أو لإذاعة طرفاية، وبعدها، غطوا تلك الحرب الظالمة التي حولت نتائج مسيرة سلمية توجت بخروج الإسبان من الصحراء، إلى حرب ضروس بدأها القذافي وراء البوليساريو، وأكملتها الجزائر، وهي حرب لها أوشام آلام حاضرة، ولكن الأهم اليوم هو عندما يزور الواحد منهم العيون بعد 47 سنة، فإنه يكاد يغمى عليه، فهذه الضاحية المعزولة بالأمس البعيد، أصبحت اليوم مدينة متكاملة الأركان. وفي هذا قضينا ليلتنا الأولى في الحكايات الجميلة عن صحراء ماتزال في صدارة القضايا الوطنية.
منذ 2016 عندما أقدم الأمين العام للأمم المتحدة حينها بان كيمون على وصف المغرب بالدولة المحتلة، قررت الفيدرالية المغربية لناشري الصحف أن تنزل إلى الصحراء، وانطلق شعارها المعروف اليوم وهو انسجام المهنية والاستقلالية في الصحافة مع الدفاع عن القضايا الوطنية، وأسسنا حينها فرع الأقاليم الجنوبية الذي ظل يضم 3 جهات هي كلميم وادنون والعيون الساقية الحمراء والداخلة وادي الذهب، إلى أن جاء مؤتمرنا الاستثنائي في 3 يوليوز 2020، بعد خروج زملاء لنا لتأسيس تنظيم خاص بهم، لتنطلق مسيرة الهيكلة الجهوية.
وفي العيون، كنا مبتهجين ونحن محفوفون برؤساء فروعنا للجهات العشر، باستثناء جهتي العاصمتين الإدارية والاقتصادية اللتين تمثلهما داخلنا الصحف الوطنية، ولكن الذي غمرنا بسعادة أكثر، هو هذا النضج المعتبر الذي عرفه فرعنا في العيون بحيث إنه استطاع تنظيم تظاهرة من المستوى الدولي يستحق عليها التنويه.
لقد أخذنا على عاتقنا في الفيدرالية ألا نظل مجرد نقابة مطلبية لأرباب الصحف، بل أن نكون جزءا من المجتمع المدني في خدمة المملكة وقضاياها الكبرى. وهكذا انتهزنا فرصة هذا الدفء الذي تعرفه العلاقات المغربية الإسبانية، لنفتح حوارا مع زملائنا في الضفة الأخرى حتى نساهم في هذا التطور المحمود الذي تعرفه علاقات المملكتين المتجاورتين، وأعتقد بكل تواضع أننا نجحنا في هذه الرهان.
كان قيدوم الصحافيين المغاربة الإسبانوفونيين سعيد الجديدي وهو يسير الندوة الحوارية بارعا، وقد تحدث عن دورية إنعاش الخلايا بين البلدين من خلال دورية الصراع والوئام، إلا أنه قال إن «الخلايا الإسبانية تظل حيّة قابلة للانتعاش، وأما النظام الجزائري فمشكلته ألا خلايا له». ضحك الإسبان والمغاربة بالطبع، ولكنه ضحك كالبكاء، لأن مصير المنطقة، والمنطق الجيوسياسي يفرض أن يكون الجوار بمفهومه الواسع صحيا حتى يمكن قطف أكبر النتائج، وتحويل المتوسط إلى حوض تنمية بدل أن يكون اليوم بؤرة توترات.
قيدوما الصحافة الإسبانيان من جزر الكناري، مانوييل فرناندو فيدال ورفاييل إسبانزا ماشين، كانا واضحين وصريحين، فهما يعترفان بتغلغل الطرح المضاد للطرح المغربي في جزء كبير من الرأي العام الإسباني، وهو ما ينعكس على الإعلام أيضا. وبالتالي لابد من مجهود لتبديد المغالطات، فإذا «كان الهدف هو إنهاء النزاع المفتعل في الصحراء، فالمشكل أن هذا بالضبط هو أكبر شيء تخشى الجزائر وقوعه».
ذ. معنينو كان بدوره واضحا: «هناك رغبة في إشعال الفتنة، وبوصفنا إعلاميين يجب أن نكون واعين بما يحاك ضد علاقات المغرب وإسبانيا، وأن نحافظ على هدوئنا ونرد بسلاسة، ونكون ديموقراطيين في الحوار ونبحث عن التهدئة ومصلحة شعبينا».
وإذا كان ذ. باهي النص، وهو باحث خبير في العلاقات المغربية الإسبانية، قد نبّه إلى الحقيقة الجيوسياسية التي لا يمكن إنكارها وهي المسؤولية المشتركة للمملكتين على أهم قنطرة تربط بين قارتين مما يفرض التفاهم كضرورة، فإن الزميل نبيل دريوش، بعد قراءة عميقة لمسار العلاقات بين الجارين، خلص إلى أن خريطة التعاون الجديدة هي دستور للعلاقات بين البلدين، وركيزة هذا الدستور هي الحوار والشفافية وعدم اتخاذ أفعال أحادية الجانب.
عندما اختتمت الندوة، أحس الجميع أن نهاية هذا الحوار في العيون هي في الحقيقة بداية لابد أن يحذو حذوها الجميع في المجتمع المدني، حتى لا نعاود السقوط في الأزمات. إن الحقائق تصنع التصورات عن الآخر، وتصورنا عن جيراننا الشماليين وتصورهم عن «المورو» فيه الكثير من الأحكمام المسبقة مما يتطلب تدخل الإعلاميين والمثقفين ورجال الفن والأدب والجامعيين. لابد أن نملأ الجسور الفارغة لئلا نترك المجال للدعاية كي تؤثر في رأي عام يؤثر بدوره في الحكومات.
إن لإسبانيا مكانة خاصة في العلاقات الخارجية للمغرب، فهذه ليست جارة فقط، بل إننا نشترك في قرون من التاريخ، والأندلس بالخصوص مازال يحمل الآثار العربية المغربية الموريسكية، وشمالنا وجنوبنا مازالا يحملان آثار التواجد الإسباني. لقد ظل الحذر هو عنوان علاقات مملكتين بينهما ملفات في غاية التعقيد تم حل جلها بصعوبة قبل عقود، ومنها خروج إسبانيا المستعمرة من شمال المملكة مع احتفاظها بسبتة ومليلية، ولم تخرج من سيدي إيفني إلا 13 سنة بعد استقلال المغرب عن فرنسا، كما أن مدريد لم تخرج من الصحراء إلا بعد المسيرة الخضراء سنة 1975، وقد خرجت فعليا من الصحراء مع جلاء آخر جندي في مثل هذا الشهر قبل 47 سنة، ولكنها لم تخرج أبدا من ملف الصحراء.
إسبانيا التي تعاملنا معها لقرون تحولت 180 درجة في الثمانينيات، والتحقت بالحلف الأطلسي ودخلت المجموعة الاقتصادية الأوربية التي ستتحول إلى الاتحاد الأوربي في 1986، وسبقتنا على المستوى التنموي بشكل كبير، وظللنا ندبر علاقاتنا معها حول ملفات اقتصادية في البداية حتى أصبح الصيد البحري من جهة ومنافسة موادنا الفلاحية المصدرة لأوربا هي عنوان هذه العلاقات. ولكن، في نهاية الثمانينات سيدخل ملف الهجرة على الخط بكل تعقيداته ليصبح إلى الآن واحدا من الملفات دائمة السخونة في تحديد العلاقات بين البلدين، ثم جاء ملف الإرهاب بالتزامن مع تفجيرات نيويورك، وبعدها تفجيرات الدار البيضاء ثم قطارات مدريد لينضاف التعاون في هذا الباب إلى الملفات القديمة، مع محاربة المخدرات والجريمة المنظمة، وظل التعاون الاقتصادي يتطور بصمت وثبات إلى أن أسقطت مدريد باريس من الصدارة وأصبحت إسبانيا منذ 2013 هي الشريك الاقتصادي الأول للمملكة المغربية.
أما الذي بعث الروح في علاقات المملكتين بشكل غير مسبوق، فهي أزمة كانت في طيها نعمة، بحيث إن خطأ مدريد في استقبال زعيم البوليساريو للاستشفاء بهوية مزورة أدى في النهاية إلى اعتراف إسباني غير مسبوق بأن الحكم الذاتي هو الحل الأمثل للصحراء. هذا ما احتفينا به في العيون كفيدرالية أو لنقل احتفلنا به، وهذا هو ما يجب أن يدفع إعلامنا ليكون في الخطوط الأمامية للدفاع عن قضايا مصيرية للمملكة.
ولكن، ليكون الإعلام في خدمة المجتمع والبلاد، لابد أن يكون مهنيا وعالي الكعب ومستقلا وذا مصداقية في الداخل وفي الخارج. وعندما نقول إننا يجب أن ندافع عن المغرب بالإعلام في القارات الخمس، فلابد أن يكون هذا الإعلام محترما في هذه القارات، وليس هشا اقتصاديا وأخلاقيا في الداخل، وتريد أن تسافر به إلى الخارج.
وللأسف، فإن إعلامنا الذي تبذل الدولة مجهودا ماليا خرافيا لدعمه، نجده اليوم يتخبط في العشوائية، ومجرد تنظيمه الذاتي يتعرض للقتل الرمزي بحيث لم نستطع إجراء انتخابات له بعد انتهاء ولايته، بل ويتم اليوم التلاعب بالملف الاجتماعي للعاملين في المجال الإعلامي بشكل يسيء إلى صورة هذا القطاع، ويتم إعمال نهج الإقصاء وعدم الاحتكام للقانون، ونهج أسلوب القطيعة مع التراكمات المعتبرة في مجال التقنين والحريات والحقوق، لنصل إلى تجزيء المجزأ وتفتيت المفتت، وبعد ذلك نقدم قطاعاً ملفوفا بالضمادات ونقول بلا خجل للناس إن هذا هو الذي سيلبي حقكم في إعلام متعدد وفعال، بل إنه سيتجاوز ذلك ويهزم الإعلام العالمي بعد خروجه إلى اللعب في مختلف القارات!
مؤمنون أن صوت الحكمة سيعيد الأمور المهنية إلى مجراها الطبيعي، وبعد ذلك يمكن أن نطمح إلى خروج صحافتنا من أزماتها الموضوعية بحلول صادقة رشيدة عاقلة، وأما دفاع الإعلام عن قضايا المواطن والوطن العادلة فلا يحتاج إلى ثمن. إنها مسؤولية وواجب، ونتمنى أن نوفق بمبادراتنا، كالتي احتضنتها العيون، في القيام بهكذا واجب، فشكرا للمقاولات الثلاثمائة التي تثق في فيدرالية لن يستطيع أحد أن يمحوها بجرة قلم، لأنها رقم صعب في المعادلة، والأيام بيننا.