الجبهة الداخلية

وما نعيشه اليوم في بلداننا الناجية من جحيم ما بعد سقوط ما سمي بالثورات هو دينامية تاريخ أكبر من وقائع هنا وهناك، منجزات هنا ملموسة وإخفاقات هناك واضحة. لقد عشنا مراحل متعددة خلال العقدين الأخيرين لكل مرحلة منها دواعيها ورجالاتها وصعودها ونزولها. هذا التدافع الداخلي كان منبثقا من تصورات مختلفة لمصلحة الوطن التي أصبح لها عنوان بعد هزات الربيع العربي وهو الاستقرار. وبالطبع كان لابد – ككل دواء – من آثار جانبية، وهذه الآثار هي التي تدفع إلى اتخاذ القرارات التكتيكية أحيانا والاستراتيجية أحايين أخرى.

نور الدين مفتاح [email protected]

أحيانا قد ينهار بين يديك كل شيء. لا شيء غير قابل للانكسار في هذا الإنسان الذي خلق ضعيفا، والقوي هو الله. والفرد كالجماعة، لا يمكن أن يركب دائما الخط المستقيم، لذلك تبقى الحياة في حد ذاتها سلسلة لا متناهية من المفاجآت، وبها تصنع المصائر، ويكتب التاريخ.

في بلادنا كمثال، سيشهد التاريخ أننا عشنا عمق هذه الفلسفة في الحياة بكل شساعتها، وتحولنا من الإمبراطورية إلى هذه الدولة المحاصرة المقاتلة التي تعيش يوميا على إيقاع محاولات الاستهداف. لسنا وحدنا، في العالم الذي تحركه المصالح، من نحارب وراء الجدار. هناك من مثلنا من انهار، ولكن نحن صمدنا لحد الآن. إن مخلفات الاستعمار كانت وشما يصعب أن يمحوه قرن واحد، ولذلك، ما زالت مجرد حدود الدول بين ضحايا القوى الكبرى المستوطنة أو المستعمرة ترهن آمال الملايين من الناس في ثلاث قارّات.

هذه القضايا التي تثار كل مرّة بين المغرب وبعض البلدان أو المنظمات في الضفة أو الضفاف الأخرى، دائما ما تأخذ حجما كبيراً ثم تنتهي إلى مجرد مناوشات، وهذا لن ينتهي ما دام أن هذا المتوسط في ضفته الجنوبية لابد أن يبقى رهينة لئلا يستقل، ولا يتطور، ولا يتّحـد، ولا ينافس. والغريب أن بعض القضايا تأخذ طابع الدفاع عن حقوق الإنسان والضغط للدفع نحو المزيد من الدمقرطة، ولكن، في نهاية المطاف، يظل التوجس من هكذا مخططات هو الأسلم.

ماذا جرى في الربيع العربي؟ ما الذي طبخ في مكاتب الاستخبارات الأمريكيّة حينها؟ ما علاقة التيار الإسلامي عموما بالصراع بين الكبار على هذه المنطقة جد الحساسة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؟ لماذا وقع ذلك الزلزال ذات ربيع ثم انهار من حولنا كل شيء؟ هل يمكن أن نسمي اليوم ما انبثق عن الحراك التونسي بالياسمين؟ لماذا كانت النتيجة المأساوية في دول هي سقوط الدولة وبقاء النظام وتشرد الشعب؟

أسئلة كثيرة تطرح عندما تقع المناوشات مع فرنسا أو قبلها إسبانيا أو البرلمان الأوربي أو غيرهم. الأسئلة أعمق، وأضيف إليها واحداً أعتبره أهم، وهو: من مِن مصلحته في هذا الغرب المتعدد أن ينتهي الخلاف المغربي الجزائري ويطوى ملف الصحراء؟ أكاد أزعم أن القليلين سيرتاحون لمثل هذا السيناريو الذي نعتقد في أحايين كثيرة أن مصيره هو بيدنا، ولكن الأمر أعقد والله أعلم.

هل يعني هذا الكلام أننا كاملو الأوصاف ولا ينقصنا إلا الاعتراف بالمنجزات؟ أبدا. في تدبير المشترك عموما هناك صدامات لا تنتهي. نحن عشنا الدولة لقرون، وكان الصعود والنزول، وعشنا كجيل تجربة أسالت الكثير من المداد، وأخذت من القراءة ما يغنينا عن التكرار هنا، على الأقل في أدبيات هيئة الإنصاف والمصالحة. ولكن العقود الأربعة التي حكم فيها الراحل الحسن الثاني، لم تكن كلها على وتيرة واحدة، لا يمكن مقارنة 1965 بـ 1972 ولا 1984 بـ 1989 ولا بـ 1998. مخاض عسير تمت قراءته حتى من طرف من اعتبروا ضحايا آنذاك بعدما أخذوا المسافة اللازمة من لجاج المواجهات، وهذا طبيعي في أي حكم خرج من ربقة الاستعمار واستمر المستعمر القديم بكل وسائله مصرّا على أن تظل التبعية قائمة بحكم المصالح.

وما نعيشه اليوم في بلداننا الناجية من جحيم ما بعد سقوط ما سمي بالثورات هو دينامية تاريخ أكبر من وقائع هنا وهناك، منجزات هنا ملموسة وإخفاقات هناك واضحة. لقد عشنا مراحل متعددة خلال العقدين الأخيرين لكل مرحلة منها دواعيها ورجالاتها وصعودها ونزولها. هذا التدافع الداخلي كان منبثقا من تصورات مختلفة لمصلحة الوطن التي أصبح لها عنوان بعد هزات الربيع العربي وهو الاستقرار. وبالطبع كان لابد – ككل دواء – من آثار جانبية، وهذه الآثار هي التي تدفع إلى اتخاذ القرارات التكتيكية أحيانا والاستراتيجية أحايين أخرى.

درس اليوم، وربما الأمس القريب والغد المنظور، هو أن ليس هناك من خيار حتى لدى المختلفين في وجهات النظر حول الأصلح للوطن، سوى تقوية الجبهة الداخلية حول الثوابت والمثل التي حارب من أجلها الآباء المؤسسون للوطنية المغربية من مختلف الآفاق. لابد من سحب البساط من تحت أقدام أولئك الذين قلنا إنهم يستهدفون المغرب وما أكثرهم! لابد من انفراج كريم حتى ننصت بهدوء لنبضنا الخاص بنا. لا يمكن لأحد أن يحدد لنا إيقاع التطور والتحول، ولكن، هذه مملكة تربت على التعددية والاختلاف البناء وحرية التعبير، وهذا سيظل قائما جنبا إلى جنب مع طموح الارتقاء إلى الأسمى والأرقى.

إن طي صفحة إسلاميي المؤسسات من الحكومة أعطى واقعا جديدا فيه إحساس من التحرر من تخوفات مشروعة من طرف نخب من مختلف المشارب، وإذا كان يحسب للمملكة ـ باعتراف خصومها ـ بأن هذا الطي كان ديموقراطيا عكس دول أخرى أريق فيها الدم على مثل هذا التحول، فإن المشكل هو أن النخب الجديدة اليوم في المؤسسات التمثيلية، ورغم كل منجزاتها أو محاولاتها على الأقل، لم تستطع أن تعطي لهذه اللحظة الكبرى كلّ زخمها، ولا هي استطاعت أن تقنع رأيا عاما كان بالفعل محتاجا لبديل مقنع، في دولة لها جبهات ملتهبة متعددة، وعلى رأسها وحدتها الترابية والرهان التنموي.

إن عشرات المئات من الجماعات وكذا العديد من البرلمانيين والوزراء وقادة الأحزاب وجزء من المجتمع المدني، يقدمون الصورة المخيبة للآمال والمكرسة لصورة المغرب الذي يسير بسرعتين، سرعة إنجازات على مستوى البنى التحتية وفي ملفات خارجية وسيادية، وسرعة بطيئة على مستوى الإنجازات الاجتماعية والتواصلية، وعلى مستوى النقاش العمومي جرأة ومضمونا. هناك انطباع عام ما يزال محسوساً في تقديري المتواضع وهو أن اقتلاع الإسلاميين كان نهاية مهمة وليس بدايتها بالنسبة للحكومة، وهذا يمكن أن يلخص الكثير من التذبذب والتردد والخرجات غير الموفقة والقضايا المثيرة للجدل والسخرية أحيانا التي تطغى على التقييم العام للأداء السياسي اليوم سواء كان هذا التقييم منصفا أم لا.

وعودا على بدء. نحن دولة ذات سيادة، ولا يهمنا كثيراً ما يقوله الغرب عنّا. الذي يهمنا هو ما نفعله بأنفسنا وما يمكن أن نفعله مع محيطنا وشركائنا الخلص من أجل أن نتقدم. ولهذا أعود دائما وبصدق إلى المقاربة الملكية للموقف من الجارة الجزائرية، التي كلما صعّدت إلا وتجد جلالة الملك يميل إلى اللين. إن المستقبل يوجد في هذه الضفة الجنوبية للمتوسط. مستقبلنا في الصحراء وفي إنهاء هذا الخلاف التاريخي الظالم لنا مع الجزائر، وهذا لن يحل مشكلا إقليميا فقط، هذا مفتاح لحل مشاكل داخلية حقيقية، تنموية وسياسية وديبلوماسية. سنكون أقوى أمام الاتحاد الأوربي وفرنسا وأمريكا وغيرهم، وسنقطع الطريق على كل المستفيدين من التوتر وعلى رأس المستفيدين الفساد.

لا شيء مستحيل أو بعيد، ولكن القريب والمقرب للآمال الكبرى هو هذه الجبهة الداخلية التي يجب أن تزيد قوة في مغرب لم ولن تكون له أي عقدة نقص أمام أي كان، إنها جبهة الثقة المتبادلة والثوابت والانفراج والإصلاح، وما هذا على المغرب بعزيز.

مقالات مرتبطة :

اترك تعليق