نحن والموريتانيون «دياولنا»

تتزاحم الذكريات الوطنية في هذا الشهر القائظ. ففي 14 غشت من كل سنة، تحيي المملكة حدثا لا يولى الاهتمام الذي يستحق، اللهم إلا ما كان من بضع ربورتاجات حول الداخلة وما جاورها. والواقع أن ما جرى في 1979 كان رهيبا. لنعد 43 سنة إلى الوراء، حيث كان المغرب قد استرجع جزءا من الصحراء بفضل المسيرة […]

نور الدين مفتاح [email protected]

تتزاحم الذكريات الوطنية في هذا الشهر القائظ. ففي 14 غشت من كل سنة، تحيي المملكة حدثا لا يولى الاهتمام الذي يستحق، اللهم إلا ما كان من بضع ربورتاجات حول الداخلة وما جاورها. والواقع أن ما جرى في 1979 كان رهيبا. لنعد 43 سنة إلى الوراء، حيث كان المغرب قد استرجع جزءا من الصحراء بفضل المسيرة الخضراء، وقانونيا تم توقيع اتفاقية ثلاثية تعرف باتفاقية مدريد بين الرباط ومدريد ونواكشوط سنة 1975 وظلت لموريتانيا السيادة على إقليم وادي الذهب في إطار ما نهجه الحسن الثاني في هذا الموضوع من أن ما لا يدرك كله لا يترك جله.

ونظرا لشراسة المعارك التي كانت تخوضها ميليشيات البوليساريو مدعومة من الجزائر ومدججة بالسلاح الليبي، فقد انهارت جدران الدفاع الموريتانية، وتم الانقلاب على الرئيس المختار ولد داداه، واستولى على الحكم عسكري يدعى ولد السالك، وأول ما فعله هو نقض اتفاقية مدريد وتوقيع اتفاق هدنة مع البوليساريو تحت رعاية الجزائر في 13 غشت 1979. إلا أنه في 14 غشت كانت القوات المسلحة الملكية قد أمنت هذا الإقليم الذي يمتد على مساحة تتجاوز الخمسين ألف كلم أمام ذهول الجميع وصدمة الجزائر. ولعل هذه المحطة من تاريخ صراع المغرب من أجل وحدته الترابية واحدة من أكبر العقد التي تتحكم لحد الآن في السلوك السياسي لقصر المرادية اتجاه اليد الممدودة الدائمة من الرباط.

ولابد أن يستحضر المتابع الموضوعي هذه الضربة الملكية السياسية والعسكرية التي أفشلت مخططا كان بالفعل سيزرع أسس الدولة السادسة في المغرب الكبير، ولابد أن يحيي آلاف الضباط والجنود الذين سجلوا واحدا من أكبر الإنجازات في رمال الصحراء المغربية. آلاف الأبطال نذكر منهم، للتمثيل لا الحصر، الكولونيل الغجدامي الذي دخل التاريخ وأطلقت عليه الصحافة الفرنسية حينها لقب «ثعلب الصحراء».

عندما كنا كفيدرالية مغربية لناشري الصحف في الداخلة في الأسبوع الأخير من شهر يوليوز في نشاط تنظيمي وإشعاعي يناقش شجون حلم وحدة المغرب الكبير المتعثر، كنا نستحضر هذه الولادة المجيدة لهذا الذهب في وادي الوحدة الترابية للمملكة، وحين استدعينا ممثلين من الإخوة الموريتانيين ومنهم الوزير السابق ولد الأمين والبرلمانية منت التقي، فإننا مع كل النخب المغربية في الداخلة، كنا مقتنعين أن حسم هذا النزاع الطويل والرتيب والمؤلم لن يتم إلا بالاعتناء المتبادل بالعمق المغربي لموريتانيا، والعمق الموريتاني للمغرب. فمن 1975 إلى 1979 كانت موريتانيا في قلب المعادلة، وبعدها أصبحت في وضع لا تحسد عليه، فبين عدم الاستقرار السياسي خلال العقود الماضية، والضغط الجزائري، والكياسة المغربية، بقي هذا البلد معلقا على قضية لم تعد له فيها ناقة ولا جمل، ولكن له في أرضها، وفي وادي الذهب بالخصوص، وفي المغرب عموما، روابط التاريخ والدم والانتماء المشترك وسبل التنمية والرفاه للشعبي. ولهذا، لابد من مبادرة المجتمع المدني أولا لتكثيف الجهود ومد الجسور الإنسانية وحياكة الروابط الثقافية، وأنا أضم صوتي إلى صوت الوزير ولد الأمين الذي قال إن المغربي عندما تحدثه عن الموريتاني فإنه يقول «هذا ديالنا» ولكن «هاد ديالنا» تفرض التزامات أولها إلغاء التأشيرة على الإخوة الموريتانيين. فهل يعقل أن لا تكون هناك تأشيرة بالنسبة للإخوة الجزائريين الذين يريدون زيارة المغرب – وهذه نخوة مغربية ثابتة – ويكون هذا السد موجودا بالنسبة للموريتانيين؟ شيء آخر ليس على ما يرام وهو أن الأخ الموريتاني في نواكشوط الذي يريد زيارة ابن عم له في الداخلة عليه أن يسافر من نواكشوط إلى الدار البيضاء ثم من البيضاء إلى الداخلة ليقطع أكثر من 7000 كلم ذهابا وإيابا، في الوقت الذي كان يمكن ألا يتجاوز الألف وخمسمائة كلم ذهابا وإيابا في خط مباشر بين نواكشوط والداخلة وهو غير موجود. آلاف الكيلومترات كجدار تباعد بين شعب واحد يوجد في بلدين. هذا بلد تجري في دمائه دماؤنا وأهله أهلنا وآلامه آلامنا، وهو اليوم جار سياسي طموح في أن يكون لاعبا في ساحة الكبار في إفريقيا، وليس هناك على الإطلاق، ومن جميع الجوانب، بلد أقرب إلى موريتانيا من المغرب، ولذلك على المغرب اليوم أن يقوم بمبادرتين خفيفتين: رفع التأشيرة وتسيير رحلات طيران من الداخلة إلى نواكشوط، وستكونان مبادرتين ثقيلتين في ميزان هذه العلاقات التي يسممها الجيران، ولكن لا ترياق لهذا التسميم إلا بالسخاء الموزون والبناء، وأعتقد ونحن نحيي هذه الذكرى الـ 43 لملحمة استرجاع وادي الذهب أن كل الظروف مواتية للإقلاع بالعلاقات السياسية بين الرباط ونواكشوط إلى ما حلم به الرواد ومنهم محمد الخامس والحسن الثاني وفال ولد عمير والمختار ولد داداه والداي ولد سيدي بابا، ومنهم من بنى موريتانيا المستقلة ومنهم من ساهم في بناء المغرب المستقل، وها هو الورش ما يزال مفتوحا ينتظر استكمال الأحفاد لما بدأه الأجداد.

ثورة أخرى نحييها في هذا الشهر، وها نحن نحوّل أسوأ حادثة في تاريخ المملكة بعد الحماية إلى عيد. كان قرار سلطات الحماية بنفي الملك محمد الخامس بتواطؤ مع القياد الخونة ومنهم الكلاوي والكتاني ومن شابههما، الرصاصة التي ضرب بها المقيم العام أوغسطين غيوم رجله، فثار المغاربة وعاد محمد الخامس إلى العرش في إطار نظام سياسي جديد حافظ على جوهر السلطة وشرعيتها التقليدية، وانفتح على نظام الدولة الحديثة بمؤسساتها وإدارتها وقوانينها.

عين الصواب أن نتبنى الشعار بشكل دائم منذ 1953 وهو «ثورة الملك والشعب» المسترسلة. وهي ثورة عرفت صعودا ونزولا، لحظات مجد ولحظات انتكاس، هي ثورة دخلت دروب البناء بعد مغادرة الحماية فكانت الامتحانات التي نعرف، ومازلنا أمام التحديات على الرغم من أن هذا المغرب الذي استقل في نهاية الخمسينات لم يكن يملك من ترابه إلا ما يزيد على النصف تقريبا، والآن ترفرف الراية على المملكة من طنجة إلى الكويرة رغم النزاع المفتعل حول الصحراء. وآثار البناء ظاهرة والخصاص أيضا باد، ولا أدل على ذلك من هذا الوضع المقلق الذي تعيشه حكومة البلاد ما بين حملة شعبية واسعة تدعو رئيس الجهاز التنفيذي للرحيل، وما بين لهيب غير مسبوق لأسعار كل المواد، ومع استمرار الفوارق وخفوت التعبئة وعدم الاستقرار السيكوسياسي لحكومة تبدو وكأنها أنهت مهمتها قبل أن تبدأ وهي مزهوة بإنهاء حكم إسلاميي المؤسسات.

الذكريات والأعياد الوطنية ليست مناسبات للتزين بالطرابيش الحمراء وتدوير كؤوس الشاي المنعنعة واسترجاع الأمجاد، ولكنها محفز للبحث كل يوم عن عمل يمكن للجيل القادم أن يذكره بخير وأن يحتفي به وبنا.

ولن يخرج ما يمكن أن نقوم به عن إنهاء النزاع المفتعل حول أقاليمنا الجنوبية وتطبيع العلاقات مع الأشقاء الجزائريين وبناء تعليم عمومي وصحة عمومية في مستوى يغني المواطنين عن دفع الضرائب من جهة ودفع تكاليف تعليم أبنائهم وتطبيبهم في القطاع الخاص.

وإذا كان الختام مسكا، فإننا نحتفل في نفس هذه الأيام أيضا بعيد الشباب، وهو احتفاء مستحق بالجالس على العرش شفاه الله وأطال عمره، واحتفاء إضافي بمؤسسة ملكية هي ركيزة البنيان المؤسساتي للمغرب منذ 12 قرنا. هذه الملكية التي قادت ثورة مع الشعب هي التي ستواصل الانتصار للاختيار الاجتماعي والديموقراطي لمملكة لا تكتفي بالرضى عن النفس، ولكنها تعتنق طموحا بسعة حلم شعب يستحق أن يكون كريما في بلد كريم.

وكل ذكرى وعيد وطموحنا أكبر.

مقالات مرتبطة :

اترك تعليق