الدار البيضاء ملتقى القبائل.. مديونة الأصل وقاعدتها “أنفا”

لا يمكن الحديث عن مدينة الدار البيضاء دون استحضار مستوى التضخم الذي يصل أحيانا إلى درجة التغول الذي تتميز به هذه المدينة التي تعتبر عصب الاقتصاد الوطني وتضم ملايين الساكنة الذين امتدوا أفقيا وعموديا مساهمين في حركية اقتصادية تمد شرايينها إلى باقي مدن المملكة.

 

الدار البيضاء مدينة حبلى بالأسرار رغم زحف الأسمنت الذي قضى على كثير من معالمها، لكن إحياء ذاكرتها قد يميط اللثام عن بعض من هذه الجوانب، خاصة في منطقة “أنفا” التي كانت قديما تحمل اسم المدينة أو “مديونة” التي تعد أيضا من أسمائها كما يصر على ذلك مؤلف كتاب “الدار البيضاء: النشأة والأنساب” عبدالمجيد الغندور الذي واكب مختلف مراحل تحول المدينة خاصة بعد الاستقلال وكان بمثابة شاهد على عصر هذا التحول وهو الذي يرزح تحت ثقل السنين الـ75 التي قضاها كلها في المدينة مراقبا ومسجلا لكل الأحداث الاجتماعية، خاصة ما يتعلق بأنساب ساكنتها من كبرى العائلات التي قدمت من مختلف مناطق المغرب.

 

البيضاء ملتقى القبائل ونقطة تلاحم الأجناس

 

في الكتاب لا يمكن الحديث عن عائلات بيضاوية قحة فقط، ولكن هي مزيج من العائلات والقبائل التي اختارت أن تضرب بجدورها في أعماق التراب البيضاوي في انسجام أصيل وتآزر اجتماعي واقتصادي منتج، بل إن هذه العائلات ورغم تعدد أماكن قدومها إلا أنها ضربت المثل في التلاحم خاصة خلال فترة مقاومة الاستعمار، حيث يورد الكاتب خارطة تكوينية للأنساب والأرحام البيضاوية التي يقول أنها تتشكل من عائلات تنتمي إلى: مديونة، وأولاد بن عمر، وأولاد احريز وزيان، وسوس، وزمور، ودكالة، وعبدة، والرحامنة، والرباط، وأولاد جرار، ومكناس، وفاس، والشمال، وبني ملال، وغيرهم، من المناطق.

 

يتم التأكيد على أن الكتاب يختلف عن كل ما كتب عن المدينة فيما قبل لأنه اختار السبر في أغوار الكثير من رجالات وعائلات الدار البيضاء التي تم إخراجها من الطابع المتعارف عليه اليوم والذي لا يعدو أن يكون اسما لعنوان بريدي أو لشارع أو سلعة أو حق ملكية، ليتم تجميع عدد من أشهر العائلات والأسر وإنزالها في مواقعها المجالية وأدوارها التاريخية والتعريف بالروابط الاجتماعية والروحية والإنسانية التي كانت تجمع بينها، وذلك من أجل خدمة صلة الرحم بين البيضاويين، علما أنه لم يتم إغفال قدوم العرب الأوائل للمنطقة، خاصة قبيلة بني هلال التي اختارت الاستقرار في بلاد تامسنا، قبل أن تبدأ في التوسع نحو مناطق أخرى، وأصبح اسمها طاغيا على باقي القبائل العربية الأخرى بالنظر إلى قوتها وشراستها مثل قبائل: بنو معقل، وجهينة، ولخم، وجذام، بحكم أن “سلاطين المغرب كانوا يبذلون جهدا لاستجلاب القبائل العربية” كما يقول ايف لاكوست.

 

تأسيس المجال والنشاط الاقتصادي

 

يؤسس الكتاب لمقاربة موضوعية للمجال الترابي للمدينة التي يتشكل عصبها من قبيلة مديونة وقاعدتها أنفا فيما تمتد إلى ما كان يعرف بتامسنا معتمدا في ذلك عدة مراجع، وفرضيات كما هو الحال مع ابن الوزان المعروف باسم “ليون الإفريقي” الذي قال: “إن تأسيس مدينة أنفا يعود إلى الروم في الفترة التي ترجع إلى “موريطانيا الطانجيطان”، فيما يرى المؤرخ الإسباني “لويس مارمول”، وهو من معاصري الحسن الوزان”، ان أنفا أسسها الفينيقيون”. لكن لما تحدث في كتابه “إفريقيا” عن الجذور الفينيقية لمدينة أنفا، عزف وتراجع عن رأيه ذلك، وأخذ برأي الحسن الوزان الذي يرجع تأسيسها إلى أصول رومانية كما تقدم، علما أن رجل الدولة أبو القاسم الزياني الذي عاش ما بين 1734 و1833، يطرح فرضية ثالثة بخصوص تأسيس المدينة ويقول أن “أنفا شيدت من طرف البربر الزناتيين”.

 

النشاط الاقتصادي بالدار البيضاء ليس وليد الصدفة، وإنما يرجع إلى قرون خلت، وهوما يكشف عنه المؤرخ عبدالله بن عبدالعزيز أيضا، الذي يقول، حسب ما أورده الكتاب أن أنفا كانت عاصمة المغرب الاقتصادية منذ ألف عام، “فبعد ثورة البربر، بطنجة عام 122 -739م، وظهور البورغواطيين، ظلت أنفا تحت هيمنتهم. ولما انتشرت نحلة (مذهب) طريف وولده صالح البورغواطي، سيطروا على المنطقة. وبعد ذلك، تحولت أنفا الى عاصمة اقتصادية على الشاطئ الأطلسي، ازدهر نشاطها إبان القرنين المواليين حيث بدا انطلاقها كمركز اقتصادي فعال ومتميز، جعل منها عاصمة اقتصادية على الساحل الأطلسي بجانب سهول تامسنا الخصبة والغنية بالمنتجات الفلاحية، ومينائها الاستراتيجي الذي مهد لها الطريق، فأصبحت قطبا تجاريا رائدا في المنطقة”، وهو نفس ما يؤكده العالم الجغرافي الشريف الادريسي عندما قال: كان لها مرسى مهم على الساحل الأطلسي للمغرب الأقصى”، كما أشار لأهميتها الاقتصادية لسان الدين بن الخطيب الى تطور نشاطها الاقتصادي، ونمائها في وصفه لأنفا مختصرا لها في العبارة التالية، فقال: “… ومجلب السلع، تهدي اليها السفن شارعة، و تبتدرها سارعة”.

 

خلال العهد المريني، ازدهرت أنفا اقتصاديا وثقافيا ودينيا، كما تم تغيير اسم “تامسنا” إلى الشاوية، ليتم بعد ذلك اتخاذ أنفا كـ”قاعدة مهمة وقوية لدولتهم على الشاطئ الأطلسي، بعدما كانت عبارة عن مدينة صغيرة مفتوحة للتجارة البحرية والمبادلات مع الخارج خصوصا مع دولتي إسبانيا والبرتغال. وكان سكانها بحارة وقراصنة يهاجمون السفن خصوصا البرتغالية. وجعلوها مركزا لنشاطهم، واستغلوها كما استغلوا مدينة فضالة”.

 

تفاصيل احتلال فرنسا للبيضاء عام 1907

 

الأدوار التي كان يلعبها الميناء البحري، استمر بعد ذلك، حيث “لعب الميناء الدار البيضاء دورا أساسيا ومهما في تعزيز تنميتها بفضل قربه من منطقة تامسنا الغنية. حيث، ثم توسيعه، فأصبح مؤهلا لاستقبال عشرات البواخر في اليوم، وباستطاعته تفريغ وتحميل السفن بالبضائع، ليتم الاعتماد عليه في تصدير المنتوجات الفلاحية، مما أسهم في تطوير المعاملات التي جعلت من الدار البيضاء قطبا اقتصاديا وتجاريا حيويا رائدا في البلاد وهي العوامل نفسها التي استفادت منها أنفا قديما، فأصبحت مدينة اقتصادية بالدرجة الأولى في العصر الوسيط”، لكن هذا النشاط سرعان ما تعرض للخراب بعد الاضطرابات التي عرفتها المدينة إبان الاحتلال الفرنسي في عهد المولى عبد العزيز، على إثر الأحداث الدامية الناجمة عن القرض المالي الذي تم التعاقد عليه سنة 1904 بين الدولة المغربية وفرنسا، وتداعيات مؤتمر الجزيرة الخضراء (1906)، حيث أصبح الموظفون الفرنسيون يراقبون موارد ديوانة الدار البيضاء لعدم تسديد الديون المترتبة عن هذا القرض. وكانوا في الوقت نفسه يسهرون على الأشغال التي كانت تقوم بها شركة فرنسية لإصلاح الميناء، مما أزعج قبائل الشاوية وجعلها تصطدم، سنة 1907، بالعمال الأوربيين، ما استدعى تدخل باخرة حربية فرنسية لتحل الفوضى محل الأمن والاستقرار، خاصة بعد محاولة المولى عبدالعزيز تنزيل اتفاقية مؤتمر الجزيرة الخضراء وثورة القبائل وأصحاب المصالح من رجال المخزن بالديوانة، ليبلغ التوتر ذروته يوم 30 يوليوز 1907 عندما “أقدمت جماعة من أعيان البلاد على إشعار الأهالي بمقاطعة الجالية الفرنسية بالدار البيضاء مطالبة بخروجها من المدينة، والوقف الفوري للأشغال التي تقوم بها الشركة الفرنسية بالمرسى. ولما كان باشا المدينة السيد أبو بكر بن بوزيد ينتظر قرار السلطان، اتجه جموع من الناس إلى المرسى، وسعت لتوقيف الأشغال. وأسفر الاصطدام عن مقتل تسعة عمال أجانب (فرنسيون وإيطاليون وإسبان)… وتم طرد المراقبين الفرنسيين من الديوانة… انتهزت الحكومة الفرنسية الفرصة، بعد حادث اصطدام يوم 30 يوليوز 1907 لتنفيذ المخطط الرامي إلى استغلال كل واقعة.. واتخاذها ذريعة، للضغط بالقوة على السلطان المولى عبد العزيز كي يقبل جميع الشروط التي تهدف إلى بسط الحماية على المغرب”، يقول مؤلف الكتاب، الذي يواصل سرد هذه المرحلة من تاريخ المدينة، حيث يضيف: في يوم 5 غشت، على الساعة الخامسة صباحا، اتجهت القوارب، من البارجة صوب باب المرسى، ونزل 66 جنديا فرنسيا، فقتلوا غدرا من وجدوه أمامهم من المغاربة تنفيذا لأوامر قيادتهم، وقتلوا كذلك 35 جنديا كانوا في حراسة الطريق إلى القنصليات. ولما وصلوا إلى القنصلية الفرنسية رفعوا علم الإشارة للقصف، فنفذت فرنسا قرارها بالفعل وقصفت المدينة، صباح يوم 5 غشت بواسطة الطرادة (كاليلي)، و(ودوشاليه) وغيرها من الطرادات. وأسفر القصف عن سقوط عدد من الضحايا المدنيين، وبالخصوص السكان القاطنين بالأزقة المواجهة للميناء… وأطلق البيضاويون اسم (الوكلة أو الكسرة) على الهجوم الفرنسي.

 

السقالة.. رمز للسيادة والدفاع عن الوطن

 

تجسد منشأة “السقالة” التي تقع خلف سور المدينة القديمة بالدار البيضاء والمشرفة مباشرة على الميناء الترفيهي والمحيط الأطلسي رمزا تاريخيا للسيادة المغريبية والدفاع عن حوزة البلاد والوطن. يتميز بنائها المعماري كباقي السقالات بالمغرب، بمزيج من الهندسة المعمارية الاندلسية، والبرتغالية، والمغربية، كما تعد من أبرز المعالم التراثية بادار البيضاء.

 

في موقع السقالة، تعرضت الدار البيضاء، ما بين 1468 و1470، لهجوم برتغالي كاسح عانى السكان المحليون من جرائه في فترة ما يسمى بالجهاد البحري. وتم بنفس الموقع المواجه للبحر بناء قلعة وحصون لموجهة الأطماع الاستعمارية والتكالب على ثروات المغرب. حيث سارعت الدول الأجنبية إلى إرسال قناصلها بالقرب من منشأة السقالة.

 

بعد الهجوم الفرنسي، سنة 1907، على مدينة الدار البيضاء، والمعارك القتالية التي عرفتها المدينة القديمة، بموقع السقالة، حيث احتمى بها المقاومون (دون استعمال المدافع الموجودة بها)، أحكم الجيش الفرنسي سيطرته على الدار البيضاء التي ظلت منطقة عمليات عسكرية إلى ما بعد توقيع عقد الحماية سنة 1912. ورغم الطبيعة العسكرية الظاهرة لحصن السقالة، لم يأذن الجنرال ليوطي بتدميرالموقع لسبب واحد: هو أن حصن السقالة ملك للدولة المغربية المجسدة في المخزن الذي هو طرف في عقد الحماية.

مقالات مرتبطة :

اترك تعليق