لاعبون كبار ولعب صغير

صورتان مؤلمتان جثمتا على سماء المملكة خلال الأسبوع المنصرم، الأولى كان مسرحها حدود مدينة مليلية السليبة حيث قضى ما يناهز 23 مهاجرا من إفريقيا جنوب الصحراء وجرح أكثر من 70 آخرين فيما أصيب إصابات متفاوتة الخطورة ما يناهز 140 من قوات الأمن المغربي. وأما الصورة الثانية فجاءت من مدينة وهران التي تحتضن الدورة 19 للألعاب […]

نور الدين مفتاح [email protected]

صورتان مؤلمتان جثمتا على سماء المملكة خلال الأسبوع المنصرم، الأولى كان مسرحها حدود مدينة مليلية السليبة حيث قضى ما يناهز 23 مهاجرا من إفريقيا جنوب الصحراء وجرح أكثر من 70 آخرين فيما أصيب إصابات متفاوتة الخطورة ما يناهز 140 من قوات الأمن المغربي.

وأما الصورة الثانية فجاءت من مدينة وهران التي تحتضن الدورة 19 للألعاب المتوسطية، بحيث منعت السلطات الجزائرية وفدا إعلاميا مغربيا من دخول التراب الجزائري بدعوى أنهم جواسيس (هكذا). وقد عاد الزملاء إلى بلادهم ونحن نجرّ معهم خيبات قدر هذا الجوار المجنون وهذه السوابق التي يخرق فيها نظام كل بديهيات المسؤولية على تنظيم تظاهرات دولية ليست ملكا للدولة المنظمة، وكل الحقوق المتعلقة بحرية الصحافة وكرامة الصحافيين.

إن الذي ينتصب أولا في قضية المواجهات مع المهاجرين ليس البعد التجريمي ولكن البعد الإنساني، فهؤلاء اليائسون الذين قطعوا آلاف الكيلومترات ومعها آلاف المآسي والأهوال، هم نتيجة لهذا النظام العالمي المختل الذي يجعل جزءا من سكانه يعيش خارج التاريخ، ويقامر بحياته من أجل أمل الخروج من الخط تحت الصفر للحياة. ومهما يكن من تهورهم واندفاعهم المميت، فإن هذا الجانب الاجتماعي هو الذي يجب أن تُقرأ به مثل هذه الاصطدامات المؤلمة، فليس الحدث هو ما جرى ونقلته الصور الصادمة في الحدود المصطنعة بين الناظور ومليلية، ولكن الحدث هو هذه القارة الإفريقية الغنية بسواعدها وثرواتها، والغارقة في نفس الوقت في الديكتاتوريات والانقلابات والتآمر والعزل والاستقواء في نظام عالمي مختل.

إن العنف مُدان من جميع الأطراف، ولكن بين تطبيق القانون وإرادة التحدي من أجل الكرامة تقع مثل هذه المآسي التي تنفطر لها القلوب، ولهذا لابد من محاربة شبكات التهريب الدولي للبشر والصرامة في حماية النظام العام، ومعهما لابد أن نفعّـل سياسة الهجرة التي سطرتها بلادنا لئلا يذوق المهاجرون من جنوب الصحراء في بلادنا ما نذوقه في أوربا ونندد به ويستعمله اليمين المتطرف هناك كرأس مال سياسي للتخويف وكسب الأصوات.

في هذه المأساة، وبكل أسف، نجد أنف الجزائر حاضرا كما بينت ذلك العديد من التقارير الموثوقة والتحقيقات الصحافية، ومنها تحقيق سبق أن أنجزته «الأيام» في نونبر 2018 بعنوان (طريق الجحيم: ناجون أفارقة يروون قصص الرعب للوصول إلى المغرب). فالثابت أن الجارة الشرقية تيسر سبل تدفق هؤلاء المهاجرين من الحدود الشرقية إلى المملكة لإغراقها بهذا المد وإحراجها وتصيّد صور الاصطدامات كالتي جرت هذا الأسبوع بحدود مليلية المحتلة، بل إن الخبير عبد الرحمان المكاوي يورد في حوار له ننشره ضمن هذا العدد معطيات خطيرة بهذا الصدد تقول «إن الجزائر انتقلت مؤخرا إلى استعمال الهجرة الإفريقية، حيث تشير المعلومات المتوفرة إلى تجميع أزيد من 30 ألف مهاجر من جنوب الصحراء في مدينة مغنية الحدودية في انتظار تهريبهم إلى المغرب عبر طرق سرية». ويضيف ما هو أكثر مثارا للصدمة: «الجزائر بعدما حفرت خنادق مكهربة على طول الحدود تركت طرقا سرية تحت هذه الخنادق تهرب من خلالها الأفارقة وحبوب الهلوسة إلى المغرب»!

الأخطر في هذا الأمر هو أن لا الجزائر ولا البوليساريو، وفي كل الأزمات التي عرفتها الحدود المصطنعة مع الثغرين السليبين سبتة ومليلية لا يتوانيان عن التأكيد على أن الأمر يتعلق بالحدود الأوروبية الوحيدة في القارة الإفريقية وعلى الدفاع عن السيادة الإسبانية على المدينتين، بل إنه في أزمة جزيرة «ليلى» سنة 2002، هاجمت الجزائر المغرب على أساس أنه بلد توسعي يريد أن يحتل أراض إسبانية، فكيف يستقيم حديثهم هناك عن الجزائر كعاصمة تحرر الشعوب من ربقة الاستعمار؟

هل بهكذا مواقف صبيانية يمكن أن نواجه هذا العالم المتحول والذي أصبح كوحش فرانكنشتاين الذي صنعه صاحبه في المختبر فكان من أول ضحاياه! هل هذا هو جنوب المتوسط الذي كان يواجه تحديات أوربا المتكتلة بتشرذمه، واليوم يواجه عالم الجوائح والحروب الشاملة وزلازل التضخم والندرة التي تهدد الاستقرار العالمي؟

هذه الجزائر الرسمية بدت صغيرة جدّا جدّا في مطار وهران، فأن تنزل من تهديدات رئيس الأركان شنقريحة، ومناورات الجيش الشعبي «الذي لا يقهر»، والبلاغات العسكرية اليومية للبوليساريو حول الأقصاف والتي كادت تصل إلى 600 بلاغ عن معارك في فنجان، وقطع العلاقات الديبلوماسية معنا، وتمزيق معاهدة الصداقة مع إسبانيا لمجرد أنها انحازت للحل الواقعي الذي يقدمه المغرب في قضية الصحراء… أن تنزل يا أخي إلى منع وفد صحافي أعزل إلا من كاميراته وأقلامه بذلك الشكل المهين من الدخول إلى الجزائر، فهذا ضعف لا يليق، وأما أن يقال إن هؤلاء جواسيس، فهنا تحول الأمر إلى نكتة سخيفة كان أول من ضحك منها ضحكا يشبه البكاء هم الجزائريون أنفسهم الذين برهنوا قبل أيام ومرة أخرى أنهم كبار، واحتفوا بالوفد الرياضي المغربي، وهتفوا لاسمه كما لم يهتفوا لغيره لأن «خاوة خاوة» حقيقة شعبية لا يمكن أن تمحوها السياسات غير الشعبية.

وحتى الوفد الصحافي المغربي عاد بجرح وضمادة، جرح المنع الجائر من حق مكفول بجميع الشرائع الدولية لتغطية تظاهرة دولية، وضمادة التضامن في المطار من الموظفين ورجال الأمن والمواطنين الجزائريين، ولهذا يبقى الأمل قائما بأن الغد مهما كان بعيدا فإنه سيهزم هذا التراكم الجيولوجي للضغائن وسينبلج صبح الوئام لأنه حتمية.

طوال هذه المدة التي وصل فيها التصعيد الجزائري إلى قمته غير المسبوقة، تميز الموقف الرسمي المغربي بالإحجام عن الدخول في ردود الفعل، والعدول عن المعاملة بالمثل، فلا ردّ على قطع العلاقات، ولا بلاغات من الخارجية ضد بلاغات قصر المرادية، ولا رد للقوات المسلحة الملكية على بلاغات الأقصاف اليومية للبوليساريو ولا موقف رسمي من الاستفزازات، وهذا يبدو أنه يزيد من إغاظة السيد عبد المجيد تبون ومن يحكم معه من قيادة الجيش، إلا أن المغرب يرد في الميدان ويحقق المكاسب ويبسط سيطرته على طول الجدار الذي يتمدد أحيانا في بعض المناطق ويؤمّن معبر الكركرات ويكسب النقاط الديبلوماسية وأهمها تحول الموقف الإسباني في قضية الصحراء وغير هذا كثير.

إن الحروب الكلامية تفيد في التنفيس وأما البناء فيكون في الميدان، ومهما يكن، فإن ما يقوم به المغرب من أجل وحدته الترابية اليوم سيكون في محكمة المستقبل جهادا من أجل بناء هذا المغرب الكبير كالضمانة الوحيدة للبقاء في عالم بصم على دخوله إلى حقبة جديدة لا مكان فيها للاعبين الصغار فما بالنا باللعب الصغير.

مقالات مرتبطة :

اترك تعليق