من إنجاز رائع

الذي يفعله بعض السياسيين اليوم ليس هو استلهام دروس الديموقراطية الجماهيرية في الرياضة، ولكنهم يحولون البعد السياسي الجانبي الطبيعي في هذه اللعبة الشعبية بامتياز إلى أصل تجاري، ويشترون الأندية ويحزبونها أو يعيدون إحياء منطق القبيلة، فتجد الرجل القوي في مرحلة معينة في البلاد لابد وأن يكون فريق مدينته هو الأقوى أو ضمن الأقوياء والأمثلة معروفة منذ اتحاد سيدي قاسم إلى الآن.

نور الدين مفتاح [email protected]
فجرت كرة القدم مرّة أخرى الحماسة الوطنية في شوارع الدار البيضاء، وفي قلوب ملايين المغاربة عبر التراب الوطني. كان فوز الوداد البيضاوي بالبطولة الإفريقية متعة جماعية خلابة، خصوصا وقد أبدع الجمهور في تحويل ملعب «دونور» إلى واحد من أجمل الاستعراضات الجماهيرية عبر العالم.
نفس هذا الملعب هو الذي رفعت فيه تيفوهات عميقة مثل الغرفة 101 الواردة في رواية «1984» لجورج أورويل، وهو كذلك الذي هتفت فيه الجماهير بأنين الإقصاء والظلم في نشيد «فبلادي ظلموني» الذي أبهر خارج الحدود. هذه ليست مباريات في كرة القدم فقط تدور في ملاعب مغربية، بل إنها مرآة ضخمة كاشفة عن تحولات سوسيولوجية لا تظهر في يوميات المغاربة العادية. إنها تعبير قوي عن الانتماء الوطني اللامشروط إلا بالحق في الإنجاز وفي الاعتراف بالمواطنة وفرض الحق في التعبير، لدرجة أنه يمكن القول اليوم إن أكثر الفضاءات ديموقراطية هي الجماهير في ملاعب كرة القدم.
لا يمكن أبدا عدم تسييس كرة القدم والرياضة بصفة عامّة. إنها من مجمل القوة الناعمة عبر العالم، وهي جزء من السياسات العمومية، وهي خزان اللحمة الوطنية. وحتى وإن وصلت فيها المبالغة أحيانا إلى حدود تحويلها إلى شبه حروب، فإنها تبقى مصدراً للافتخار ومانحة لنشوة الانتصار أو مصدراً لتجرع مرارة الانكسار. وما عشناه في إثنين الحمراء البيضاوية كان موعداً آخر من مواعيد الاحتفال الجماعي التي تقدم درساً للساسة ومدبري الشأن العام مفاده أن الأرضية في الوجدان العام للمغاربة جاهزة لا تنتظر إلا إنجازاتكم وحلولكم حتى يتعبأ الناس، وتتحرك الأرض تحت الأقدام في الشوارع من أجل مغرب التغيير.
الذي يفعله بعض السياسيين اليوم ليس هو استلهام دروس الديموقراطية الجماهيرية في الرياضة، ولكنهم يحولون البعد السياسي الجانبي الطبيعي في هذه اللعبة الشعبية بامتياز إلى أصل تجاري، ويشترون الأندية ويحزبونها أو يعيدون إحياء منطق القبيلة، فتجد الرجل القوي في مرحلة معينة في البلاد لابد وأن يكون فريق مدينته هو الأقوى أو ضمن الأقوياء والأمثلة معروفة منذ اتحاد سيدي قاسم إلى الآن.
آسف لأن فرحي العارم المستحق في هذه الليلة الودادية المباركة لم يمنع عني هذه الهواجس والمقارنات التي تدفع بابتهاجي إلى ضفاف الاكتئاب السياسي. الناس يتابعون هذه المباريات في تدبير الشأن العام منذ عقود، وأحيانا تتفجر تعبئتهم كما حصل في التناوب الأول وفي انتقال العرش وفي التغيير الدستوري لـ 2011، ولكن ما نفتأ أن نعود إلى نشيد المظلومية الحزين. وبعد عشر سنوات من المشاركة في الحكم لإسلاميي المؤسسات، لنقل إن صناديق الاقتراع حكمت بطي هذه الصفحة، فكانت فرصة جديدة تشبه مباراة بطولة قارية، لسبب بسيط هو أن الحدس الشعبي كان يعرف عموما بأن التيار لا يمر بين هذا المكون الإسلامي وجزء من الدولة والنخب المؤثرة، وهذا جمد جزءاً كبيراً من الإصلاحات لمدة 10 سنوات، أما الآن وقد فتح أمام حكومة الأعيان ومن والاهم الطريق السيار، فإن الذرائع سقطت، ولكن للأسف، كانت البداية مما ينطبق عليه القول المغربي المأثور: «من الخيمة خرج مايل».
فباستثناء الورش الملكي لتعميم الحماية الاجتماعية، لا نجد شيئا يذكر تحت شمس الحكومة، فالغلاء ضارب أطنابه، والأوراش التنموية والاجتماعية متثائبة، والرجل العرجاء تبقى هي القوة السياسية لحكومة تعتقد أن السياسة أصلا هي جلبة من الكلام ومضيعة للوقت، فإذا بنا لا نحن بالسياسة في الشق المتعلق بالحريات والمؤسسات والحقوق ولا نحن بالتدبير، وأما التواصل فقد سارت بذكر ضعفه الشديد الركبان.
ولنأخذ العمودين الكبيرين اللذين بنيت عليهما كل آمال التغيير في الإنسان، وهما التعليم والصحة. فقد أوكل ملف التربية لرجل من الوزن الثقيل هو السي شكيب بنموسى، وهو مهندس النموذج التنموي الجديد، إلا أن هذا الرجل الودود بدأ بعجيبة حرمان من يفوق سنه 30 سنة من ولوج مهنة التدريس مما أثار زوبعة من الاستهجان والاستغراب، خصوصا وأن كل التجارب المقارنة بدون استثناء تجعل هذه المهمة التدريسية مفتوحة لطبيعتها وفلسفة التراكم المفيدة للمتلقين. ومرت هذه القضية المفروضة فرضاً لتأتي بعدها قضية استشارة «مؤثرات» و«مؤثرين» ينشطون في الأنستغرام حول إصلاح التعليم مما أثار الاستغراب والاستهجان أيضا. وليكون الختام مسكا، أطلق السيد شكيب بنموسى قبل أسابيع استشارة وطنية حول إصلاح التعليم!! مع العلم أن المغرب على الخصوص قتل موضوع التعليم قتلا بالتشخيص، وجميع أفكار الأولين والآخرين موجودة في الأوراق، وهناك قانون إطار منتهي مفروض لا يتغير بتغير الحكومات، وقد حسم في أكثر المواضيع خلافا وهي لغة التدريس. بل إن هذه الاستشارة قام بها السي بنموسى وأصحابه عندما كان رئيسا للجنة النموذج التنموي الجديد، حيث توجد الوصفات التكميلية للإصلاح. واليوم يقول السيد الوزير إن علينا إشراك التلاميذ أيضا في التفكير في إجراءات تنزيل الإصلاحات وبلورة الإجراءات، وهؤلاء التلاميذ بالضبط هم من ضحايا منظومة التربية والتكوين بحيث مازالت مشكلتهم البدائية هي معرفة القراءة والحساب، قبل أن يصلوا إلى الاستيعاب.
وأما قطاع الصحة العمومية الذي يندى لوضعه الجبين، فقد كان من المفروض أن تدفعه دروس جائحة كورونا إلى القطيعة مع هشاشته وتخلفه، إلا أن هذا الحصن المفترض لصحة المواطنين، والوعاء الضروري لضمان نجاح مشروع تعميم التغطية الصحية، بدأ مع الحكومة الجديدة بسقطة غير مسبوقة عندما عينت على رأسه السيدة نبيلة الرميلي كوزيرة وبعد سبعة أيام لاغير أقيلت ليعود إلى الوزارة الوزير السابق في حكومة سعد الدين العثماني السيد خالد أيت الطالب. وقد كان هذا وحده انكسارا لصورة حكومة سوقت على أنها فريق خارق عوّض فريقا متواضعا في التدبير يقوده الإسلاميون.
وفي النهاية، وعلى الرغم من الزيادة المحتشمة في ميزانية هذه الوزارة الاجتماعية الضخمة، فإن حليمة مازالت على عادتها القديمة. التردد والاجترار في منظومة صحية عمادها الموارد البشرية، ونحن نرى كيف أن مباريات لتوظيف أطباء لا يتقدم إليها أحد، وعشرات المئات من أطباء القطاع العام مقدمون لاستقالاتهم التي ترفض، وآلاف منهم مهاجرون إلى الخارج، والأرقام صادمة، بحيث إن 14 ألف طبيب مغربي غادروا، وخسارة المغرب فيهم تصل إلى 4000 مليار سنتيم، والنتيجة كما يصفها بعض أبناء الدار أنفسهم هي أننا أمام «منظومة دمار نفسي صحية».
هل هناك إذن جديد مع الحكومة الجديدة يمكن أن يفجر الكامن في نفوس المغاربة، كما جرى في مباراة الفرحة المستحقة مساء الإثنين في الدار البيضاء؟ هل هناك شيء يستحق المتابعة لهذا الفريق الذي غطت تلعثماته وتعثراته الابتدائية على بريق أسمائه؟
لا شيء يستحق الالتفات، ولذلك يضاعف المغاربة فرحهم الكروي بحثا عن التوازن المفقود. وهنيئا للوداد، في انتظار الفريق الوطني بالدوحة إن شاء الله.
مقالات مرتبطة :

اترك تعليق