الزواج: من يقبل شريكا متشائما يشترط عدم إنجاب الأطفال؟

عودة إلى الجذور
من النادر أن تخلو صفحة عربية على فيسبوك خاصة باللا إنجابيين من عبارة بعينها لرهين المحبسين الشاعر والفيلسوف أبو العلاء المعري (973 -1057) ابن معرة النعمان في محافظة إدلب السورية، وهي "هذا ما جناه علي أبي وما جنيت على أحد". كان المعري معروفا بفلسفته التشاؤمية، وقد أعرض عن الزواج معتبرا إنجاب الأطفال جناية، فالحياة برأيه محنة ومآلها الموت حتميا، وهو القائل "خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد"، وتعتبر فلسفته التشاؤمية من الجذور التي تأسس عليها الفكر اللا إنجابي، خاصة في العالم العربي. أما في الغرب فآرثر شوبنهاور (1788 -1860) الفيلسوف الألماني، المعروف بفلسفته التشاؤمية، واعتباره الحياة شرا مطلقا وتبجيله للعدم، يعتبر الأب الروحي لأساس فلسفة اللا إنجابية التي تعرف أيضا بفلسفة الانقراض.

ليس على هذه الأرض ما يستحق الحياة
يرى اللا إنجابيون أن على البشرية أن تساهم طوعا في انقراضها الذاتي، ويعتبرون إنجاب طفل إجبارا له على تحمل محنة الوجود، ومن دون أخذ رأيه، إضافة إلى احتمال ولادة الطفل بعطب جيني أو إعاقة جسدية، أو تعرضه لاحقا لأمراض وحوادث وخسارات وعذابات مختلفة من دون أي طائل.
المأزق العاطفي
من السائد أن الزواج يتضمن تكوين أسرة وإنجاب أطفال، خصوصا في المجتمعات العربية التي تحتفي بكثرة الذرية وتعتبر الأطفال عزوة وسندا للأب والأم، ومن هنا يبرز المأزق الذي يواجه اللا إنجابيين العرب في العثور على شريك، بوجود شرط صعب وصارم يضرب أساس فكرة الزواج. لماذا يثير الزواج لغطاً كبيراً في أوساط اللاجئين السوريين؟ وبالعودة إلى الشابة المصرية هدى، وهي من الإسكندرية وحاصلة على دبلوم تجارة. تقول هدى "المشكلة هي أنني إن صارحت الشخص الذي يفكر بالارتباط بي، سيصاب بصدمة، وقد يقول إنني مختلة عقليا. المجتمع يعتبر المرأة آلة لتفريخ الأطفال، والزواج يعني الإنجاب. لا أريد أن أبقى وحيدة من دون شريك، ولا أعرف ما هو الحل". لم يكن في طفولة هدى ما يقودها إلى رفض إنجاب الأطفال، لكنها مؤمنة بعمق بلا جدوى الحياة، وتعتبر ديفيد بيناتار مرشدها الروحي. وتخبرني هدى أنها خطبت مرتين، وفشلت. في المرة الأولى، أخفت قرارها بعدم الإنجاب تماما عن خطيبها، لكنها لم تستطع تحمل كلامه عن أحلام المستقبل والبيت الذي يملأه الأطفال، ففسخت الخطوبة، من دون أن تصارحه بالسبب. وبرأي الأخصائية النفسية أسيمة مرشد أن "العلاقة المبنية على عدم الوضوح أو على الكذب غالبا ما تتدهور مع الوقت، فما بالك إذا كان الأمر غير المصرح به هو عدم الرغبة في الإنجاب الذي هو شرط استمرار الزواج في المجتمعات التقليدية، وغريزة طبيعية وفطرية". في المرة الثانية قررت هدى إخبار الشاب بموقفها من الإنجاب بعد فترة من الارتباط، فما كان منه عقب الصدمة الأولى، إلا أن عرض عليها الخضوع لعلاج نفسي. وتقول "شعرت أنه يعاملني كمريضة نفسية أو مجنونة، ثم بدأ بالتهرب، ولم يعد يرد على مكالماتي". لم تتجرأ هدى حتى الآن على التصريح علنا بكونها لا إنجابية، لكنها ناشطة باسم مستعار على مواقع التواصل الخاصة باللا إنجابيين، وتأمل في أن تتعرف عبرها على شريك لديه نفس المبدأ. أما فكرة الزواج من مطلق أو أرمل لديه أطفال فلا تستهويها، وإن كانت تدرك أنها قد تكون الحل الوحيد."لن أضحي بمبدأي من أجل لحظات سعادة"
من تونس، تواصلت مع أشرف عماري، وهو في الثامنة والعشرين من عمره ومن مدينة سيدي بوزيد، حاصل على شهادة البكالوريا، ويعمل في الزراعة، وهو مؤسس صفحة "توانسة لا إنجابيين" على فيسبوك. في أحد مناشيره كتب أشرف "هل هناك حمق وقبح وتشوه يفوق الذي نصنعه! استمتع فقط برحلتك نحو اللا شيء، دون ان تكون سببا في إنتاجها، تمرد على الوجود برفض منظومته الوحشية في صنع المزيد من الضحايا". ويؤكد أشرف أنه من المستحيل أن يغير رأيه، حتى لو تغيرت الظروف. ويقول إنه لا يحب الأطفال ويعتبرهم "مزعجين"، وليست لديه مشاعر أبوة، ويواجه بسبب ذلك صعوبات في الارتباط، وقد أنهى علاقة عاطفية لهذا السبب، يقول "لم أستطع إقناعها بعدم الإنجاب، وافترقنا". لكنه مصرّ على مصارحة الفتاة التي يدخل معها علاقة عاطفية مستقبلا بأنه لا إنجابي "وإن تركتني، ليست لدي مشكلة". وهو يرى أن "المجموعات على وسائل التواصل هي الحل الأفضل لإيجاد حبيبة تشاركني مبدأي، خصوصا وأن نسبة اللا إنجابيات قليلة جدا في مجتمعنا". ومن دمشق في سوريا، يشاطره علاء كشور الرأي بوجوب مصارحة الفتاة بأنه لا إنجابي، وهو شاب في السابعة والعشرين من العمر، وخريج كلية الآداب قسم اللغة العربية. يقول علاء "أصبحت اللا إنجابية معضلة كبرى في حياتي العاطفية، أتعثر بها كلما هممت بدخول علاقة". تبنى علاء المبدأ منذ أن كان عمره 13 عاما، ولم يكن يعلم بوجود من هم مثله، ولا قرأ عن فلسفة اللا إنجابية، لكنه عانى من تعنيف أسري وأشعرته الظروف أن "الحياة بشعة وصعبة"، ولديه أيضا أخ يعاني من نوبات صرع نتيجة التعنيف، كما يقول. ومؤخرا انفصل علاء عن حبيبته بسبب رفضه الإنجاب، ويقول "أخبرتها منذ البداية، لكنها ظنت أنني سأتغير مع الوقت، وربما أعمتها عاطفتها، وقالت إنها اقتنعت بأفكاري". لكن حين تحدثا بجدية عن تقدمه لخطبتها، "تراجعت، وعادت إلى غريزة الأمومة، لكنني أكدت لها عدم تهاوني في الموضوع، حتى التبني أخبرتها بأنني أرفضه، وانتهينا إلى خيار الانفصال". وعن فكرة المراهنة على تغير قناعات الشريك في علاقة عاطفية تقول أسيمة "لا يمكننا أبدا المراهنة على تغيير أحد.. ربما يتغير وربما لا". وعلاء لا ينوي أبدا التراجع عن موقفه من الإنجاب، ولا عن إعلان شرطه المسبق لأي فتاة يتعرف عليها "كي لا تحدث صدمات. فالبداية الصريحة تجعل مسار العلاقة أكثر سلاما، لا أضحي بمبدأي من أجل لحظات سعادة قصيرة يسودها النفاق وكبت رغبات حقيقية". لكنه غير مقتنع بخصوص بناء علاقة عاطفية عبر مجموعات اللا إنجابيين، ويقول "الأمر صعب جدا، لأن الأعضاء من جنسيات مختلفة ومنتشرون في بقاع الأرض، ومعظم حساباتهم بأسماء وهمية. قد نتفق على مبادئ اللا إنجابية، لكن لا نتفق على أمور أخرى، ولا نلامس قلوب بعضنا. بناء علاقة عاطفية عن طريق الإنترنت ليس سهلا أو بسيطا".بين الحب والحرمان
سلمى من لبنان لديها تجربة مختلفة، فهي تحب الأطفال، وترغب بشدة بالأمومة، وحين أخبرها الشخص الذي أحبته، أنه يرفض الإنجاب، وافقته، ظنا منها أنه يعاني من عقم. تقول سلمى "كنت أحبه بجنون، وتظاهرت أنني لا أريد أطفالا لأنني خشيت أن أفقده، ولكي لا أؤذي مشاعره". لكن بعد سنتين من الزواج، عرضت عليه أن يجري فحوصات، لعل تقدم الطب يجد حلا لحالته، فثارت ثائرته وأكد لها أنه سليم تماما، لكنه مصر على عدم الإنجاب. أحست سلمى "بطعنة" في قلبها كما تقول، وأنه خدعها بطريقة ما، أو "ربما أنا خدعت نفسي لأجل الحب"، لكنها صمتت.
عقلانية النظرة إلى الإنجاب
زينب الصائغ، وهي بريطانية -عراقية مقيمة في لندن، وابنة عائلة أدبية معروفة، لا تعتبر نفسها لا إنجابية بالمعنى الصريح، لكن لم يحصل أن رغبت يوما بإنجاب الأطفال، وهي تمثل جيلا من الشابات اللواتي انشغلن بالمسيرة المهنية، واعتنقن اللا إنجابية لكن من دون اسم أو تطرف. وتقول زينب وهي تعمل منتجة في حقل الإعلانات، "عمري اليوم 35 عاما وبعد فترة قصيرة سيكون القرار قد حسم بالنيابة عني بيولوجيا. لكن لا أخشى ذلك، ولا أعتبر أن بابا سيغلق، وإنما ستبدأ فترة جديدة من حياتي فأنا منفتحة على التبني". وترى زينب أن إحضار طفل إلى الحياة في عالم صعب، أمر غير مقبول، "خصوصا مع صعوبة الحياة في مدينة مثل لندن حيث الإيجار والفواتير يلتهمان نصف الراتب، وشراء بيت والاستقرار المادي شيء شبه مستحيل. كثير من أصدقائي في مثل عمري، ليس لديهم أطفال، يبدو أن ذلك ظاهرة في جيلي". لم تتأثر زينب بفلاسفة اللا إنجابية، وإنما بتجربتها الشخصية وتجارب أصدقائها، وتقول "ربما لو كانت الظروف مختلفة لكان رأيي مختلف، ولفكرت بتكوين عائلة بدل التركيز على المهنة، بل التركيز على محاولة البقاء. لم أشعر أبدا باستقرار مادي أو جغرافي منذ طفولتي". وعن تأثير موقفها على علاقتها العاطفية، تقول زينب "أعتبر نفسي محظوظة جدا لأن الشخص الذي أحبه لديه نفس المشاعر تجاه الأطفال، ونحن مرتاحان لاختيار التبني. ولسنا مستعجلين، رغم أننا أصبحنا في منتصف الثلاثينات". لكن الأمر لم يكن كذلك دائما، ففي علاقة سابقة لزينب، كان الشاب يرغب بتكوين عائلة، تقول "كانت تلك النقطة موضع خلاف بيننا منذ البداية، لكن العواطف غلبتنا، وتركنا القرار، معتبرين أن أحدنا قد يغير رأيه. لكن العلاقة لم تنجح لأسباب عديدة ولم تستمر". وتضيف "في الحقيقة أعتبر أنه من المستحيل أن أغير رأيي من أجل شخص آخر، تغيير رأيي يكون لأجل نفسي ولتغير قناعتي الشخصية، وليس من أجل الآخر".
التعليقات مغلقة.