No change وشكرًا!

إن العرض الذي نقدمه لإخواننا الصحراويين هناك وللمجتمع الدولي كحكم ذاتي لابد أن يترسخ من خلال النموذج التدبيري لشؤوننا الداخلية، وكلما زادت الدمقرطة كلما تعززت المصداقية وتضاعف الأصدقاء وتضاءلت حظوظ أولئك الذين من مصلحتهم إطالة النزاع إلى ما لا نهاية.

نور الدين مفتاح [email protected]

لا تهويل ولا تضخيم ولا تزمير، لأن مثل هذه الجلبات غير منتجة. ولكن أيضاً لا تهوين ولا تصغير لحدث أعتقد أنه يستحق أن يوضع تحت أضواء التحليل، لنعرف آثاره على قضيتنا الوطنية الأولى، ويتعلق الأمر بتأكيد الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء. فهذا حدث هام في مسلسل تسوية النزاع الذي نعتقد في بلادنا أنه مفتعل. لقد عملت الديبلوماسية المغربية بشكل دؤوب خلال سنوات حكم دونالد ترامب لتصل إلى نتيجة ببصمة مغربية خاصة، لابد من استعراض بعض خصوصياتها لنفهم ما جرى وما قد يجري.

أول ما قامت به الديبلوماسية المغربية هو العمل بصمت، وعدم إثارة رجل البيت الأبيض السابق المعروف باندفاعه، وحتى عندما رفض المغرب الانخراط بشكل كامل في صفقة القرن التي قادها صهر ترامب كوشنير، فإنه قام بذلك بشكل سلس وهادئ، وأرسل تمثيلية للمؤتمر الذي انعقد من أجل ذلك، ولكنها تمثيلية في أدنى مستوياتها. وهذا لم يمنع من ربط علاقات واسعة مع كوشنير وزوجته اللذين زارا المغرب أكثر من مرّة، ولم يكن أحد يعرف عما يطبخ فوق نار هادئة شيئا.

وجاءت قرارات ترامب الهائجة بقطع المساعدات عن السلطة الوطنية الفلسطينية، والاعتراف بسيادة الاحتلال الإسرائيلي على هضبة الجولان السورية، ونقل سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس، والانخراط الكامل واللامشروط في السياسة الاستيطانية لنتنياهو، ثم ابتداع صفقة القرن لتصفية القضية الفلسطينية.

لقد ظل المغرب يراقب عن كثب هذا التحول غير المسبوق في السياسة الأمريكية الشرق أوسطية، وراسل الملك كرئيس للجنة القدس البيت الأبيض في موضوع نقل السفارة، وبدا أن عالم ما بعد الربيع العربي بما خلفه من توجسات لن يكون هو عالم ما قبل هذه الانعطافة التاريخية. وانخرطت بعض الدول العربية في ما سمي باتفاقيات أبراهام واعتبرتها اتفاقيات سلام دون أن تكون هناك حرب لا بين إسرائيل والإمارات ولا بينها وبين البحرين أو السودان، ولكن المغرب ظل بعيدا عن هذا المسار، قريبا من النقطة الساخنة في الشرق الأوسط والساخنة في قلوب ملايين العرب والمسلمين وأنصار الحرية في العالم.

لا داعي للتفصيل في الإخراج الذي تم به الإعلان عن الاتفاق الثلاثي، المهم أنه بذل فيه مجهود معتبر للتأكيد على أن إعادة فتح مكتب الاتصال الإسرائيلي في المغرب، لا تعني بأي حال من الأحوال التفريط في الدفاع عن القضية الفلسطينية بكل ثوابتها المتعلقة بحل الدولتين والقدس الشرقية كعاصمة لفلسطين. وفي هذا الخضم جاء الاعتراف الأمريكي بمرسوم رئاسي بمغربية الصحراء.

القضية كلها لم تنته عند وصول نائب وزير خارجية ترامب المكلف بالشرق الأوسط إلى الداخلة، وتوقيع السفير الأمريكي على خارطة المغرب بصحرائه، والافتتاح الرمزي لمقر قنصلية بالصحراء، ولكن ظلت أفئدة المغاربة مشدودة إلى ما سيجري بعد الانتخابات الأمريكية، وظلت معلقة بعد دخول بايدن إلى المكتب البيضاوي في مسلسل تشويق سياسي غير مسبوق في المملكة.

لنتذكر ما خرج به مدير إدارة السجون التامك من مقال غاضب من الإدارة الأمريكية، مما فهم منه انزعاج الرباط من التماطل في تأكيد ما وقع عليه ترامب من اعتراف بمغربية الصحراء، ولنتذكر أيضاً أن آخر اجتماع لمجلس الأمن تداول في قضية الصحراء، وإن انزعجت من مخرجاته البوليساريو والجزائر، فإنه لم يعكس تحولا في الموقف الأمريكي التقليدي السابق على الاعتراف بمغربية الصحراء.

هذا الاستحضار هو الذي يعطي لتصريحات الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية كل معناها وقوتها، وإن كان مضمون ما تفوه به لا يعدو أن يكون كلمتين ولكنهما من صنف الكلمتين الخفيفتين على اللسان والثقيلتين في الميزان No change: لا تغيير في الموقف الأمريكي بخصوص الاعتراف بمغربية الصحراء.

هذا حدث مهم كما أسلفت، وهو اعتراف بالسيادة المغربية على جزء من ترابها من طرف القوة العالمية الأولى عسكريا واقتصاديا وسياسيا. فحتى وإن لم تكن منظمة الأمم المتحدة تعترف لنا بهذه السيادة، ما دام ملف النزاع معروضا على مجلس الأمن، فإن اعتراف اللاعب رقم واحد في العالم بهذه السيادة له وزنه الثقيل ومعناه السياسي الكبير وتأثيره في مجريات النزاع.

ولكن نقول باللاتهويل لأن الولايات المتحدة الأمريكية، في نهاية المطاف، ليست هي كل مجلس الأمن وإن كانت المؤثر فيه، وأن إنهاء النزاع لا يمكن أن يتم بإرادة واشنطن لوحدها، وأن المغرب نفسه لم ولن يتحلل من مسلسل التسوية الطويل والشاق، وأن اعتبار هذا الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء نهاية للقضية هو خطأ فادح قد يضر باليقظة والتعبئة واللياقة في المواجهة الساخنة اليومية، مع الجزائر خصوصا، على جميع الجبهات.

لابد من اعتبار هذا الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء بداية صفحة جديدة تتطلب إدارة للملف بمنطق الدولة الراغبة دائما في الحل السلمي الواقعي المتوافق عليه، أي أننا لم نبحث عن المكاسب الوازنة في قضيتنا لنستأسد على الخصوم، ولكن لنجرهم إلى الحلول القابلة للتطبيق وذات المصداقية. الهدف ليس هو التراجع عما قدمته المملكة في 2007 كخطوط عريضة لمخطط الحكم الذاتي الذي يعطي للأقاليم الجنوبية المتنازع عليها صلاحيات حكم استثنائية قد تمتد إلى كل شيء إلا السيادة، ولكن الهدف هو كسر الجمود، وتليين مواقف الخصوم، والمجاهدة من أجل إنهاء مأساة إنسانية يعيشها إخواننا في المخيمات. هذا واقع لن يرضاه إنسان، وهذا رهن لقارة كاملة تجد نفسها تتحرك بحجرة في حذائها وكان من الممكن أن تكون أقوى بلا هذه القضية الجاثمة على هياكلها ككابوس.

وداخليا، ليس من العيب أن نتناغم مع الولايات المتحدة الأمريكية فيما تعتبر نفسها به تقود العالم، وهو متابعة حلفائها في مجالات حساسة كحقوق الإنسان وحرية المعتقد والتعبير والصحافة، إنه تعامل واشنطن مع غير الحلفاء أيضا بما في ذلك روسيا. إننا في مسلسل انتقال ديموقراطي محركه ومبتدأه ومنتهاه الداخل، إلا أن العامل الخارجي دائما كان مؤثرا، فنحن لا نعيش في كوكب آخر، ومن مصلحة الجميع أن نسرع هذا المسلسل الديموقراطي بكل مشمولاته السياسية والحقوقية والاقتصادية والاجتماعية. وفي المحصلة، لا يمكن أن نعتبر الولايات المتحدة الأمريكية قوة جبارة عندما يتعلق الأمر بقياس وزن اعترافها بمغربية الصحراء، ولا نعتبرها كذلك عندما يتعلق الأمر بالتفاعل مع قضايا الحريات في البلاد.

إن العرض الذي نقدمه لإخواننا الصحراويين هناك وللمجتمع الدولي كحكم ذاتي لابد أن يترسخ من خلال النموذج التدبيري لشؤوننا الداخلية، وكلما زادت الدمقرطة كلما تعززت المصداقية وتضاعف الأصدقاء وتضاءلت حظوظ أولئك الذين من مصلحتهم إطالة النزاع إلى ما لا نهاية.

وعلى الرغم من كل ما تحمله هذه الأسطر من مرارة من الدور الجزائري المؤلم في هذا الملف، إلا أن الحل، مهما حققنا من مكاسب، لابد أن يكون مع هذه الجزائر أو من خلال تحرر قيادة البوليساريو من الوصاية العسكرتارية الجزائرية. قد نعمل على استمالة دول وازنة أخرى للاعتراف بمغربية الصحراء كفرنسا مثلا أو بريطانيا، إلا أن كل هذا له هدف واحد هو أن يقتنع الحكام في قصر المرادية بأن خلق دولة سادسة في المغرب الكبير هو المستحيل ابن المستحيل، وأن قضية المغرب عادلة، وأن التاريخ مهما طال سينصفه إما بتغيير عقلياتهم القادمة من زمن الحرب الباردة أو بتغييرهم، لأن الذي يجب أن تعرفه الجزائر – وهي على كل حال قدرنا الجغرافي – هو أن قضية الصحراء هي قضية الشعب المغربي، وهذه الجبهة الداخلية هي المرتكز والمنتهى. فاللهم عجل بالهداية، وشكرا بايدن وبلنيكن.

مقالات مرتبطة :

اترك تعليق