سبتة

النخوة الوطنية والكبرياء المجروح

وهكذا فنحن الامبراطورية لم تعد لنا إلا الذكريات وصدى التاريخ في الكتب المدرسية. وأما في الواقع، فنحن مدفوعون من طرف الجميع تقريبا إلى خوض حرب وجود تستنزف منا التضحيات الجسام لنحافظ على ما تبقى من هذا البلد.

نور الدين مفتاح [email protected]

مهما كانت الأسباب، ومهما كانت الظرفية، فإن تامغربيت والوطنية الصادقة والصراحة مع النفس تدعونا إلى التعبير عن الإحساس بالإهانة والصدمة من تلك الصور التي خرجت من أبواب سبتة المحتلة. إن صور مئات القصَّر المغاربة الذين خاطروا بحياتهم من أجل مغادرة بلادهم تسائلنا جميعا، تحاكم ارتكاننا إلى الارتياح الذاتي، وتضعنا أمام مرآة الحقيقة العارية.

التصريحات العفوية لمئات الشباب المغاربة الذين دفعهم ضغط الحاجة الرهيب إلى الكفر ببلادهم لا يمكن أن نكممها أو نؤجلها أو ندلس عليها بدعوى العامل الخارجي والعدو الخارجي مهما كانت الظروف، فقوة المغرب في اعتداده أولا بكرامة مواطنيه، وبعدها كل شيء مقدور عليه.

إن كل ما بذلته المملكة لمدة ثلاثة عقود من استثمار في تحسين صورة المغرب الدولية حقوقيا واجتماعيا واقتصاديا تلقى ضربة قاسية أوجعتنا وأفرحت أعداءنا وخصومنا، وليس بتجاهل هذا الواقع المخيف يمكن أن نفوت الفرصة على الأعداء قصد التشفي! نحن يهمنا المواطن الذي هو عماد الوطن، وهذا المواطن وجه رسالة قويّة مدويّة لابد أن نسمعها كما سمعنا رسالة الغطاء الذي سحبته الجائحة على شساعة وبشاعة القطاع غير المهيكل في المغرب. وقد كان الجواب هو أكبر عملية إصلاح اجتماعي جارية في تاريخ المغرب المستقل.

ولذلك، وبغض النظر عن الإسبان أو الألمان أو الجزائر، فإن المطلوب بكل مسؤولية هو إعادة تقييم كل هذا المجهود الاستثماري الذي بذل في شمال المملكة منذ بداية العهد الجديد، والبحث عن منارات المتوسط التي يبدو أن أضواءها لم تشتعل إلا على مستوى الواجهات البراقة فيما ظل العمق المجتمعي جريحا.

لابد أن نستخلص من كل هذا ما يجب أن يستخلص، خصوصا بعد القرارات السيادية الجريئة التي اتخذت بالقطع مع التهريب المعيشي بين المدينتين السليبتين والشمال، فآفة بعض القرارات السياسية الوجيهة هي أن تكون لها كلفة اجتماعية باهظة. لا يمكن أن نطلب من مواطن يقف على عتبة الصفر أن ينزل أكثر إلى القاع، والواقع أن جزءا كبيرا من المغاربة مزدحمون في هذا القاع. والعدمية ليست هي إنكار كل المنجزات، ولكنها أيضا هي عدم رؤية إلا المنجزات والتستر على معاناة الملايين من أخواتنا وإخواننا من ضحايا المفارقات التي تجعلنا يوماً في مصاف الدول التي تلعب مع الكبار في القارة وفي المتوسط، وفي الصناعة وفي الموانئ والطرق السيارة والأقمار الاصطناعية وحتى الاختراعات، ويوما بتلك الصور بسبتة التي مازال جرحها نازفاً ويعز التضميد ويعز الالتئام.

وأما مع إسبانيا، فلا خلاف بين المغاربة كلما تعلق الأمر بوحدتهم الترابية. ولنجمل الكلم، فهذه المملكة في محيطها القريب لها التاريخ كله ولجيرانها الجغرافيا كلها. ووضع سبتة ومليلية والجزر الجعفرية حالة فاضحة في التاريخ والواقع. فهل يعقل أن الصحراء المغربية التي سلمتها إسبانيا إلى المغرب بحكم اتفاقية 1975 ماتزال في اللجنة الرابعة للأمم المتحدة لتصفية الاستعمار، وسبتة ومليلية لا وجود لها في هذه اللجنة بل تعتبر حدوداً أوربية في قارة إفريقية! والمغرب لا يطرح هذا الموضوع بإلحاح لأن له أشواك أخرى زرعها الاستعمار ليشغل بال هذا البلد الذي كان هو الإمبراطورية العظمى. ولا يمكن أن تخرج من رأس المواطن الإسباني العادي أن «المورو» لهم أجندة خفية مؤداها في نهاية المطاف هو العودة إلى الأندلس! وأما الجزائر التي تضع نفسها في مصاف قيادات الدول التحررية فإنها تعتبر دفاعنا عن مغربية سبتة ومليلية نهجا توسعيا لمملكة احتلال!! وكما طمع سيء الذكر خوسي ماريا أثنار سنة 2002 في صخرة صماء غير مأهولة تدعى «ليلى» كاد أن يشعل على إثرها حربا، فإن جينرالات الجزائر لم يتورعوا عن الدخول إلى أراض مغربية مؤخرا في العرجات بفكيكـ طردوا مستغليها منذ عقود بدعوى أنها تدخل ضمن ترابهم. هل هذه الجزائر المترامية الأطراف محتاجة لحقل أو حقلين وجزء كبير من شرق المملكة التهمته لأسباب سال فيها مداد بحجم المتوسط؟

وهكذا فنحن الامبراطورية لم تعد لنا إلا الذكريات وصدى التاريخ في الكتب المدرسية. وأما في الواقع، فنحن مدفوعون من طرف الجميع تقريبا إلى خوض حرب وجود تستنزف منا التضحيات الجسام لنحافظ على ما تبقى من هذا البلد. هذا الظلم التاريخي دفين في نفسية الحاكم والمحكوم في المغرب، وعندما توقظه «الحكرة» نثور، وهذا ما أفسر به شخصيا كل الاندفاعات الغاضبة متى خرجت بها الديبلوماسية المغربية. وعموما هذه الصرامة كانت في العشرين سنة الأخيرة ناجحة ولكنها تبقى عملا بشريّا لابد أن تتخلله كبوات وصعود ونزول، وهو عمل سياسي يجب في النهاية أن يخضع باستمرار للتقييم والمساءلة في إطار الوطنية التي تجمع صاحب القرار وصاحب السؤال.

لقد أخطأت مدريد خطأ سياسيا فادحاً عندما استقبلت إبراهيم غالي وأدخلته المشفى بهوية مزورة، وهذا الخطأ كان يمكن أن يتجاوز في بضعة أيام، إلا أن الخطأ الأكبر هو عدم الاهتمام بتنبيهات المغرب، وبعث إشارات الاحتقار للمغاربة مما عقد الوضع وأوصلنا إلى هذه الأزمة الديبلوماسية بين المملكتين هي الأخطر منذ «حرب» جزيرة ليلى سنة 2002.

إن الزيت المسكوب اليوم على العلاقات المغربية الإسبانية لا يغذي إلا نار مدفأة الجزائر، ويد هذه الجزائر نجحت في تحريك المواجع بين الرباط ومدريد، فمن دون دول العالم كافة لم تختر الجزائر لمحميها الغالي إلا إسبانيا كي تورط حكومتها في استضافة زعيم حركة انفصالية مطلوب لعدالتها ويشن حربا عسكرية على المغرب بعد أن تحلل من اتفاق وقف إطلاق النار في نونبر الماضي. هذه أرجل شيطان دخلت لتخرب علاقات المغرب مع أول شريك تجاري له في العالم وبوابته نحو أوربا وأحد أكثر بلدان العالم ارتباطا بالتعاون مع الرباط في ملفات حساسة تتعلق بالأمن القومي الأوربي. وها نحن نرى كيف يمكن أن تنجح المؤامرات في خلق هذه الفوضى المدمرة التي كلما استفحلت كلما زاد تسامر الجينرالات حول مدفأة إبليس للتشتيت والتشفي.

والذي يسهل عمل موقظي الفتن في مضيق جبل طارق هو هذه التربة الإسبانية المغربية المليئة بأشباح الماضي وشياطين الحاضر. من الأندلس إلى الاستعمار، ومن معركة أنوال إلى الغازات السامة، ومن المسيرة الخضراء إلى سبتة ومليلية، وزد على هذه القصعة من الكسكس كل توابل الإسلام السياسي والهجرة الشرعية وغير الشرعية والقنب الهندي والمساندة الشعبية للانفصال في الصحراء والحياد السلبي للحكومة والعوامل السيكوسياسية وما نعرف منها أقل بكثير مما لا نعرف.

وللذين يعتقدون أن المغرب رفع سقف المواجهة عاليا، فإن نهج الرباط ليس وليد أزمة بن بطوش. هذا فعلناه مع الولايات المتحدة الأمريكية، ولنتذكر خطاب محمد السادس عندما حل ضيفا على القمة الخليجية وألقى خطابا قاسيا اتجاه إدارة أوباما التي حاولت أن توسع صلاحيات المينورسو بالصحراء، وما فعلناه مع فرنسا عقب أزمة عبد اللطيف الحموشي ومع السويد والاتحاد الأوروبي وهولندا والإمارات والسعودية .. هذا تدبير سيادي لبلد يدافع عن كرامته، ونحن لا يمكن إلا أن نكون في خندق المواجهة كما نوجد اليوم اتجاه إسبانيا، إلا أن النخوة الوطنية التي تحرك الخيلاء الجماعي في ورثة الامبراطورية الشريفة لا يجب أن تصاحب بتلك الصور المهينة التي خرجت لتجرح كبرياءنا الجماعي، فالوطن بسبتته ومليليته وصحرائه يبدأ من كرامة مواطنيه، ومن تربة العدالة الاجتماعية وسماء الحرية بحثا على الرفاه للجميع.

مقالات مرتبطة :
تعليقات الزوار
  1. منير

    نشكرك كتيرا على هدا المقال ولكن سيدي كريم اقول كلمة ولا افهم معناها حبذا لو كتبت مقالا على ما يجري هده الايام في البرلمان وهم يتقاسمون الثروة تحت اسم المعاشات لأن المواطن في اشد الحاجة اليها ورسالتي لملكي محمد السادس لن يقدر علي هؤلاء سوى الله وانت فارجوك ياسيدي ان تمنعهم من ذالك

اترك تعليق