عبد الهادي بوطالب وقضايا الإسلام المعاصر: الاجتهاد في العصر الأموي (13)

من بين القضايا التي استأثرت باهتمام الأستاذ الراحل عبد الهادي بوطالب، قضايا الإسلام المعاصر. اهتمام الفقيد بهذا الموضوع، يعود من جهة إلى كونه من خريجي جامعة القرويين ، عالما علامة، ومن جهة أخرى إلى كونه تحمل مسؤولية مدير عام للمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم في مرحلة احتل فيها النقاش حول ما سمي بالصحوة الإسلامية، بعد الثورة الإيرانية، صدارة الأحداث والاهتمامات السياسية والفكرية في ذلك الوقت، حيث يجدر القول، بأن نفس القضايا مازالت مطروحة إلى اليوم، والتي خاض فيها الأستاذ عبد الهادي بوطالب بالدراسة والتحليل عبر العديد من المقالات والمحاضرات التي نشر البعض منها في كتاب من جزأين، تحت عنوان، “قضايا الإسلام المعاصر”. وهي كتابات مازالت لها راهنيتها.

 

وقد ارتأينا بمناسبة شهر رمضان المبارك، أن ننشر على حلقات بعضا من هذه المقالات المنشورة في الكتاب المذكور أو غيره، تعميما للفائدة ومساهمة منا في نشر فكر عبد الهادي بوطالب الذي يعد من رواد الفكر الإسلامي التنويري.

 

الاجتهاد في العصر الأموي

الحلقة (13)

 

وهو عصر صغار الصحابة وكبار التابعين، إلا أنه اشتهر فيه التابعون لقلة الصحابة وموت كبارهم، واشتغال من بقي منهم بتدابير شؤون الأمصار والولايات.

 

وقد استمر الاجتهاد في هذا العصر وتولاه فتيا وقضاء واجتهادا في استنباط الأحكام الشرعية من امتد بهم العمر من الصحابة المُسنين وطائفة من التابعين، مستعملين جميعا في اجتهاداتهم نفس الآليات التي كاني يعمل بها الاجتهاد في عصر الخلفاء الراشدين. غير أن مجلس الشورى توقف في هذا العهد لأسباب عديدة من بينها : تفرق المجتهدين في الولايات، وظهور فرق إسلامية انتهجت منهجا آخر لاستنباط الأحكام مما أدى إلى الاختلاف.

 

يتميز هذا العصر بتفرق المسلمين سياسيا بين سنة وشيعة وخوارج وغيرهم. وكان لكل من المذاهب والفرق منهجه، فافترقت آراء المسلمين بسبب هذا الاختلاف. وبسبب تفرق المجتهدين في الأمصار وتعذر التنسيق والتوفيق بين اجتهاداتهم، تعددت الفتاوى واختلفت بتعدد مواقع المجتهدين. فكان للمكيين فتاويهم، وللمدنيين فتاويهم، وللمصريين فتاويهم، وللبصريين والكوفيين فتاويهم. وزاد في الاختلاف دخول الموالي حلبة الاجتهاد.

 

كان أهل مكة يتبعون فتاوى عبد الله بن عباس ومن تخرجوا عليه من التابعين الموالي كمجاهد وعطاء وطاوس. وكان أهل المدينة يتبعون فتاوي عبد الله بن عمر ومن أخذ عنه من التابعين كسعيد بن المسيب. وكان أهل مصر يتبعون فتاوي عبد الله بن عمرو بن العاص. واتبعت البصرة في الأغلب فتاوي أبي موسى الأشعري، واتبعت الكوفة فتاوي عبد الله بن مسعود ومن أخذ عنه.

 

وساعد على الاختلاف في الاجتهاد كثرة رواية الحديث، وظهور وضع الأحاديث اي اختلاقها. وكل ذلك كان يحمل المجتهدين العرب على التأني والتروي قبل إصدار الأحكام، علما بأن وضع الأحاديث قد عولج بواسطة تطبيق آليات علم الجرح والتعديل الذي ظهر قبل هذا العصر، ولكن شيوع الوضع في العصر الأموي فجر الحاجة إلى تركيز قواعده وتنظيم آلياته حتى تسْلَم أحكام الشرع من استنباطها من أحاديث موضوعة، وعلما كذلك بأنه قد نبغ من بين الموالي جمهرة من العلماء المؤهلين للفتوى والاجتهاد كان من بينهم من اقتعد مكانة المجتهدين العرب بل فاقهم. وحينما يُذكَر أنس بن مالك يُذكَر بعده من الموالي تلميذه محمد ابن سيرين، كما يذكر بعد ابن عباس مولاه عكرمة، وبعد عبد الله بن عمر مولاه نافع، وغيرهم كثير،حتى لأصبح هؤلاء الموالي يؤلفون كثرة بين المجتهدين والمفتين.

 

وفي العصر الأموي تَقوﱠت كلتا النزعتين اللتين ظهرتا على عهد الخلافة الراشدة : أهل الحديث، وأهل الرأي. وكان أكثر علماء الحجاز من الفريق الأول، وأكثر علماء الكوفة من الفريق الثاني.

 

وقد نشط الاجتهاد في هذا العصر. وكان على راس المجتهدين فيه الصحابية المخضرمة عائشة رضي الله عنها التي استقلت –كما قيل عنها- بالفتوى في خلافة والدها أبي بكر وخلافتي عمر وعثمان، واستمرت تُصدر الفتوى إلى موتها سنة 58 هــ عن سبع وستين سنة، أي في نهاية خلافة معاوية بن أبي سفيان الذي توفي سنة 60 هــ وتخرج عليها مجتهدات مُفتيات أمثال عَمْرة بنت عبد الرحمن، وحفصة بنت سيرين، وعائشة بنت طلحة.

 

واجتهادات عائشة كثيرة. فقد كانت ذات ثقافة متنوعة المشاري فقها وروايةَ حديث وحفظا لشعر العرب. وتفردت بين الصحابة باجتهاداتها ورواياتها واستدراكاتها على الصحابة ما فاتهم. وأُفردت لهذه الاستدراكات كتب خاصة نشير من بينها إلى كتاب الحافظ السيوطي : “عين الإصابة، في استدراك عائشة على الصحابة”.

 

وشارك الخلفاء الأمويون في أعمال الاجتهاد واستمراريته وشجعوا أصحابه فعرف هذا العصر اجتهادا امتدت وتيرته وساهم فيه الخلفاء أنفسهم. ومنهم معاوية بن أبي سفيان الذي وصفه ابن حجر الهيثمي بأنه “كان مجتهدا أيﱠ مجتهد وفقيها أيﱠ فقيه”. وكان من المجتهدين الذين يجتهدون لتغيير الأحكام بتغير الزمن والبيئة ولا يتأخرون عن الاجتهاد في المستجدات والتأقلم معها. روي أبو سعيد الخُدْري أنه قال : “كنا نعطي صدقة الفطر في زمان النبي (ص) صاعا من طعام، وكان طعامنا الشعير والتمر والزبيب والأقط (أي الجُبن) حتى قدم علينا معاوية حاجا ومعتمرا فكلم الناس على المنبر. ومما كلمهم به قوله : “إني أرى مُدﱣيْن من سمراء الشام (أي من حنطتها) تعدل صاعا من تمر”. فأخذ الناس بذلك.

 

وبذلك وصل به اجتهاده إلى البحث عن ما يعادل المقياس النبوي فوجد أن نصف صاع من حنطة الشام يعادل صاعا من تمر في زمن الرسول. فغير الصاع إلى النصف والتمر إلى الحنطة، وأقره فقهاء المسلمين على ذلك وفيهم بعض الصحابة الذين كانوا ما زالوا في خلافته أحياء.

 

وفي العصر الأموي برز الخليفة عمر بن عبد العزيز فقيها مجتهدا وهو من التابعين. وقد قيل عنه إن الله جدد به الإسلام في المائة الأولى، وعُرف بأنه كان يستشير قبل أن يجتهد، وأنه كان محاطا بمجموعة مرموقة من الفقهاء. وبذلك يكون قد أحيى نظام مجلس الشورى الذي تعطل قبله. وهو الذي ورد عليه من حَجَبة البيت الحرام طلب بأن يُعدﱣ لبيت الله كسوة جريا على العادة فأجابهم بقوله : “إني رأيت أن أجعل ذلك في أكباد جائعة، فإنها أولى بذلك من البيت” كما ورد ذلك في كتاب الأستاذ أمين الخولي بعنوان “المجددون في الإسلام”.

 

وبعد الخليفة عمر بن عبد العزيز توالت اجتهادات بعض الخلفاء كمروان بن الحكم، وعبد الملك بن مروان، وقد سجلت لهما اجتهادات قضائية جديدة.

مقالات مرتبطة :

اترك تعليق