عبد الهادي بوطالب وقضايا الإسلام المعاصر: التطرف الديني والوسطية

من بين القضايا التي استأثرت باهتمام الأستاذ الراحل عبد الهادي بوطالب، قضايا الإسلام المعاصر. اهتمام الفقيد بهذا الموضوع، يعود من جهة إلى كونه من خريجي جامعة القرويين ، عالما علامة، ومن جهة أخرى إلى كونه تحمل مسؤولية مدير عام للمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم في مرحلة احتل فيها النقاش حول ما سمي بالصحوة الإسلامية، بعد الثورة الإيرانية، صدارة الأحداث والاهتمامات السياسية والفكرية في ذلك الوقت، حيث يجدر القول، بأن نفس القضايا مازالت مطروحة إلى اليوم، والتي خاض فيها الأستاذ عبد الهادي بوطالب بالدراسة والتحليل عبر العديد من المقالات والمحاضرات التي نشر البعض منها في كتاب من جزأين، تحت عنوان، “قضايا الإسلام المعاصر”. وهي كتابات مازالت لها راهنيتها.

 

وقد ارتأينا بمناسبة شهر رمضان المبارك، أن ننشر على حلقات بعضا من هذه المقالات المنشورة في الكتاب المذكور أو غيره، تعميما للفائدة ومساهمة منا في نشر فكر عبد الهادي بوطالب الذي يعد من رواد الفكر الإسلامي التنويري.

 

  التطرف الديني ووسطية الإسلام

      الحلقة (1)

 

  • دَلالتا التطرف الديني والتوسط :

 

لعل أحسن ما يُمهد لمعرفة حقيقتي التطرف والتوسط هو البحث في دَلالتهما اللغوية. التطرف في جميع اللغات هو اقتعاد الطرف أو الجانب الأقصى من الخط. أما التوسط فهو اقتعاد وسطه.

 

تشير إلى ذلك –على سبيل المثال- كلمة « Extrèmisme » الفرنسية التي تعني التطرف كما تعنيه نظيرتها الإنجليزية « Extremism ». والكلمتان معا تتصلان بكلمتي « Extremity » و « Extremité »، وتدلان على الطرف أو الجانب الأقصى.

 

إن هذا البعد المكاني يتحول إلى بعد خلقي بحكم أن مقتعد الطرف الأقصى يصبح في الحياة العامة منظورا إليه على أنه انعزالي انطوائي، شاذ عن الجماعة التي يتلاءم صفها على طول الخط ويتصل بعضه ببعض، وتقوم فيه علاقة تواصل لا يرتبط بها مقتعد الجانب البعيد عن موقع الآخرين.

 

وسرعان ما يتحول هذا البعد إلى معيار خلقي يوزن به من يقتعد الوسط،- وهذا هو التوسط في المعنى المادي الأصلي- لأن المتوسط أو الواسطة يضع نفسه في مكان يبقى فيه غير غريب أو بعيد عمن يقتعدون شماله ويمينه ويشكل بينهم هو نقطة الوسط. وهي مكان أمان بعيد عن الطرف مكان الانزلاق الذي يعرض مقتعده للسقوط والتردي، ويمكن اعتباره نقطة الخطر.

 

وعلى ذلك ذمت أدبيات الأمم التطرف ومدحت التوسط. ألم يشع بينها أن خير الأمور أوسطها؟.

 

وفي أدبيات العرب ورد التأكيد على خيرية اقتعاد الوسط والتنديد باقتعاد الطرف. لقد نطق شاعرنا العربي بهذه الحكمة حين قال :

 

ولا تَـــغْـــلُ فــي شئ مـــن الأمــرْ واقْتصــــدْ

                    كــــلا طــرفَيْ قصْــد الأمـــور ذميــــــمُ

 

ونظم أحدهم حكمة “خير الأمور أوسطها” فقال :

 

خــــــيـــــــــر الأمـــــــــــور الــوســــــط

                    حــــــــــــب التـــنــــاهي غلَـــــــــــط

 

ومن الأدبيات التي تلتقي عليها الحضارات وضع أفضل الناس وأغلى الأشياء في الوسط. فقائد الجيش يقتعد وسط الجيش لا يتقدمه ولا يتأخر عنه حفاظا عليه، وليتأتى له التحكم في صفوف الجيش بوجوده في وسطه. وواسطة العقْد أنفس جواهره وأغلاها.

 

ومن يضع نفسه في نهاية الطرف لا يكون له إلا خياران كلاهما صعب أو أحدهما مستحيل. فإما أن يُجهد نفسه ليظل ثابتا في موقعه ولا يتأتى له ذلك دائما، وإما أن يسقط فيهلك. وهذا ما يوحي به قول الشاعر :

 

ونحــــــن أنـــــاسٌ لا تَوَســـــطَ بـــينــنــا

              لــنا الصـــدرُ دون العالمــــــين أو الــقبــــرُ

 

التطرف :

 

ومن دَلالتي التطرف والتوسط في اللغة ننتقل إلى التعرف على مصطلح التطرف لنلاحظ في البداية أنه ظاهرة متعددة الأبعاد : منها النفساني، والاجتماعي، والسياسي، والديني. ولها جميعها تأثير مباشر على السلوك الفردي، والتعامل المجتمعي. وتصاب بها النظم السياسية، وتُكيف الأيديولوجيات والمذاهب، ولا تخلو منها حتى بعض المعتقدات.

 

وجميع هذه  الأبعاد على اختلاف حُمولاتها وتنوع مضامينها تلتقي على شذوذ هذه الظاهرة، إذ الأغلبية في المجتمعات صغراها وكبراها لا تجنح إلى التطرف ولا تتخذ منه سلوكها المفضل، باستثناء المجتمعات التي تجعل من التطرف جزءا من عقيدتها المذهبية السياسية، أو من دينها الذي يدعو إلى التطرف والغلو.

 

والإسلام لا يعتبر التطرف طبيعة ملازمة للبشر، بل شذوذا عن قاعدة التوسط وكمال الاعتدال. ويقول القرآن عن الإنسان : “لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم” “سورة التين الآية 4)، أي مخلوقا وسطا معتدلا فكرا وخلقا وسلوكا، لكنه يتحول عن قاعدة الوسط ليمارس الشذوذ وهو استثناء. ولذلك يضيف القرآن : “ثم رددناه أسفل سافلين” (التين، الآية 5) فيصبح فاسد الخلق يميل إلى الشذوذ وينأى عن الصراط المستقيم، صراط الوسطية. ولانتشاله من التردي جاءت الرسالات السماوية لتقويم اعوجاجه ليدخل في زمرة المؤمنين الصالحين الذي أشار إليهم القرآن في هذا الاستثناء : “إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون” (التين، الآية 6).

 

التطرف مَرَضية شاذة بكل تأكيد، تصيب صاحبَها بداء الاكتئاب النفسي، والانطواء على الذات، والانعزال عن الجماعة. وينتاب المبتلَى بها شعورُ التعالي، وتُغذي في نفسه الجهل المركب، حيث لا يدري، ولا يحس أنه لا يدري، بل يعتبر نفسه وحده مالك الحقيقة في المطلق، وغيره جاهلا ومجانبا للصواب في المطلق. أما عندما يكون التطرف دينيا فإن من يعانيه يقفز بسرعة من الحكم بالخطأ والضلال على غيره إلى الحكم بتكفيره أي إقصائه وعزله، ثم لا يلبث إلا وقد شن على المجتمع كله حربا مقدسة قد لا يراها مستوفية غرضها إلا إذا أفضت إلى استئصال المخالف له وإبادته. وهذا هو الفكر الأحادي الاستئصالي. وهذه الدرجة تدخل في مربع “أسفل سافلين”.

 

ما أكثر مقولات الحكمة التي نددت بالتطرف وأدانته وحتى جرمتهّ”! وما أكثر المفكرين العالميين المعروفين بتألقهم في بحث الظواهر الاجتماعية الذين اعتبروه مرضا وحتى وباء معديا! واستنتجوا أنه يقف مناهضا لفضائل التقدم والعدل والتسامح، كما جاء ذلك في “المعجم الفلسفي المحمول”. واشتهرت عن التطرف مقولة الكاتب الفرنسي “فرنسوا ماري أركيت” المعروف بفولتير : “إن التطرف حالة مَرَضية تتشكل نتيجة لأمراض تراكمية تمر بمضاعفات مرضية خطيرة، وتبتدئ بالتعصب لشخص أو فكرة، مرورا بمرحلة الحماس لهما، فمرحلة التشاؤم والتطير من الواقع، لتنتهي إلى الكراهية والبغضاء والحقد ونفي الغيرية. وأخيرا إقصاء من وما عداها”.

 

ويعطي “القاموس الفلسفي” عن التطرف تعريفا مختصرا هو : “التطرف اندفاعٌ في التحمس لفكر واحد يصبح معه صاحبه أحادي الشعور، وفي حالة اضطراب نفسي يُفقده حاسة التمييز بين الحسن والأحسن، والسيئ والأسوأ”. ونقرأ لفيلسوف آخر قوله : “ليس المتطرف إلا قاتلا يحترف الاغتيال إما فعلا وعمليا، أو مرشحا للقيام به، أو محرضا عليه، مما يجعله مشاركا في جريمة الاغتيال”.

 

وعن التطرف يقول الفيلسوف الألماني “إيمانويل كانت” : “إن التطرف في المعنى العام للكلمة يعني النطق بأقوال وممارسة أعمال تتجاوز حدود التعقل البشري”. أما “إميل شارتيي” الفيلسوف الفرنسي المشهور باسم “ألان” فقد أثرت عنه مقولته : “أن يتجه شخص أو أكثر إلى حصر المجتمع في الذين يتفقون معهما، فهذا خيال مستحيل. وهو التطرف بعينه”.

 

إن ظاهرة التطرف بما تحمله من مضاعفات وأخطاء ذات عواقب وخيمة على المجتمعات شدت إليها البحث العلمي الذي رصد منطلقاتها عبر العالم وأرجعها إلى خمس ظواهر : (1) الشطط في الدين (2) أو الشطط في كراهية الدين (3) أو الشطط في معاداة النظم القائمة (4) أو الذهاب بعيدا في احتقار الأسس التي تقوم عليها المجتمعات (5) أو الشطط في وسمها يالتخلف إلى حد العمل على تقويضها. وكل ذلك يعني الانطلاق إلى التطرف من خانة اللاتوازن، أي من قاعدة لا تنضبط بمقاييس ولا تعرف الوقوف عند حد. وهو ما يُفسح المجال لمضاهاة ظواهر قيم لا أخلاقية كالعنف والإرهابَ والاغتيال، واستعمال القوة، واللجوء إلى الثورة المسلحة.

مقالات مرتبطة :

اترك تعليق