الدولة السادسة في المغرب الكبير

يعلمنا التاريخ أن الثابت مستحيل في مصير الأمم، وما دامت الأمة ولادة، فالتقدم يبقى مطمحا مشروعا، إلا أن البداية في عالم اليوم لا يمكن أن تكون إلا من التكتلات الإقليمية، وإلا فإننا سنبقى على الهامش نجتر أمجاد ماض ولىّ ونعض الأصابع على مستقبل يتسرب بين شقوق الفرقة والتمزق.

نور الدين مفتاح [email protected]

ثلاثة أيام بطنجة كانت بحمولة ثلاثين يوما، أو ثلاثين شهرا. بل كانت بسعة الحلم عندما فتحنا صدورنا لما هو أكبر من أثقال الواقع.

 

إنه الانتقال الوجداني من الجغرافيا الضيقة في البوغاز إلى الأفق المتوسطي، وقد نجح المشاركون الوازنون في ندوة: «منارات المتوسط، فرص الاندماج في بحر التحديات» في كسب رهان هذا السفر في أحلامنا الشاسعة، وانتزعوا الأمل من جذور اليأس في أن الممكن أكبر من المستحيل.

 

كان الرئيس الأسبق لتونس الثورة منصف المرزوقي من مستوى صفته وسمعته. هذا الطبيب الذي قضى عمراً كمعارض لنظام زين العابدين بنعلي البوليسي، وهذا العاشق لطنجة التي قضى بها سنوات من شبابه لم يلجأ للغة الخشب عندما وضع أمام التحدي: «أنا ضد إنشاء دولة سادسة في المغرب الكبير لأن هذا البارديغم سيؤدي في أحسن الأحوال إلى بقاء الصحراويين في تلك الملاجئ التعيسة، وفي أسوأ الأحوال إلى الحرب!».

 

صحيح أن الندوة متوسطية، وأن المرزوقي جاء للحديث عن هذا الأفق الأوسع من عقدة ملتهبة في الصحراء، إلا أن القاعة الغاصة كانت بدورها ملتهبة لمعرفة رأي رجل خاص من طينة هذا الرئيس الاستثنائي في قضية هي أولوية الأوليات بالنسبة للمغاربة.

 

وعلى الرغم من أن المرزوقي أشار بذكائه إلى أنه سبق وأن تعرض لتسونامي من السباب والشتم بسبب مواقفه من قضية الصحراء، فإن القاعة لم تهدأ وجاء السؤال بعد الآخر ليخرج من يَهمه الأمر بنتيجة أساسية وهي أنه إذا كانت هذه القضية بالنسبة للجيران ورقة في إطار لعبة شد حبل طالت، فإنها بالنسبة للمغاربة قضية وجود. فلا مغرب كبير ولا متوسط ولا إفريقيا بدون مغرب موحد، هو في النهاية كما قال الأكاديمي اللامع عبد الرحمان طنكول الدولة الوحيدة في الضفة الجنوبية التي يمكن أن تكون قاطرة الاندماج المتوسطي.

 

طنكول هو عميد كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بالجامعة الأورومتوسطية، التي يرأسها الدكتور مصطفى بوسمينة. وهي جامعة تجسد جزءا من التعاون المتوسطي كنموذج للاندماج. وهي منظمة بطريقة بعيدة عن التقسيمات الكلاسيكية في الجامعات الكبرى مثل القانون والآداب والعلوم، فهذه التخصصات موروثة عن القرن الخامس عشر، وهناك دول كالبلدان الإسكندنافية واليابان تجاوزت هذا إلى تخصصات أكثر دقة وهذا حال هذه الجامعة المتوسطية التي تشتغل بصمت وعمق مذهل. «إن العقبة في طريق أن يكون المغرب الكبير قنطرة للاندماج الإفريقي الأوربي هو الدور السلبي للسلطة الحاكمة في الجزائر، التي تختبئ خلف شعارات جوفاء من قبيل التحرر من الاستعمار وهي التي تضم أراض استقطعها الاستعمار من تونس والمغرب، وتجعل من منطقة الساحل والصحراء مرتعا للإرهاب عبر دعمها للانفصاليين».

 

لم يسلم وزير الخارجية الأسبق السيد محمد بن عيسى من السياسة وهو الذي جاء عاقدا العزم على ألا يتحدث إلا عن الثقافة ودورها في الاندماج المتوسطي. وابن عيسى مؤهل لذلك ما دام قد بدأ حياته صحافيا وعاش مثقفا إلى أن صار وزيرا للثقافة قبل أن تخطفه الديبلوماسية التي لم تستطع أن تغطي على مهرجان أصيلا كأهم ملتقى ثقافي في المتوسط وعرّابه هو ابن عيسى نفسه: «الجزائر تزعم أنها تدافع عن شعب كما دافعت عن شعب الفيتنام، لكن أين يوجد هذا الشعب؟ فالجميع يعلم جيدا أن 80 بالمائة من هؤلاء الناس الذين تستعملهم الجزائر موجودون في المغرب كما أقرت بذلك الإحصائيات التي قامت بها الأمم المتحدة عند التحضير لتحديد الهوية والاستفتاء».

 

كيف إذن سيحترمنا شركاؤنا في الضفة الأخرى إذا كنا على هذه الحال ونحن جيران؟ يتساءل رئيس الفيدرالية الدولية للصحافيين ورئيس المجلس الوطني للصحافة يونس مجاهد: «إن المجال الإعلامي مرتبط بشكل قوي بالمجال السياسي عكس المجال الثقافي، ولكي يتم احترامنا وتكون لدينا القدرة على التفاوض ينبغي أن نقوي بنياتنا وأن تكون لدينا وسائل إعلام قوية».

 

هذه محاولة مسح لما دار هناك في الطابق 15 تحت خيمة الفيدرالية المغربية لناشري الصحف ونحن نطل على إسبانيا من شرفة البوغاز. بيننا بضع كيلومترات، ولكن بيننا قرونا في كل المجالات، ورغم التفاوتات العلمية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فإننا معتزون بهويتنا ورأسمالنا البشري وبطموحنا في أن نجري للحاق بالركب الحضاري. ولكن الذي يمزق القلب هو هذا الانكسار في العمل المشترك من المحيط إلى الخليج، هذا الهدر الخرافي يجمدنا ويقتلنا.

 

وعموما، يعلمنا التاريخ أن الثابت مستحيل في مصير الأمم، وما دامت الأمة ولادة، فالتقدم يبقى مطمحا مشروعا، إلا أن البداية في عالم اليوم لا يمكن أن تكون إلا من التكتلات الإقليمية، وإلا فإننا سنبقى على الهامش نجتر أمجاد ماض ولىّ ونعض الأصابع على مستقبل يتسرب بين شقوق الفرقة والتمزق.

 

شكرا لطنجة على احتضانها لهذه الهواجس الرائعة، فلقد كنا فعلا على شرفة الحلم الأثير.

مقالات مرتبطة :

اترك تعليق