ارتسامات جد شخصية في قضايا جد موضوعية

هل يعقل أن تكون صحافة اليوم أقل عنفوانا من صحافة بلادي في 1959؟ شيء ما ليس على ما يرام وإذا لم ننتبه له، فاقرأ علينا السلام. ولهذا ليس هناك من حل إلا أن تلتقي إرادات الإصلاح في كل المؤسسات المهنية، وداخل كل الإطارات التنظيمية، فيدرالية كانت أو جمعية أو نقابة أو هيئة، لقطع الطريق، برص الصفوف، على من يعتاشون على الانقسامات والتساهلات وأنصاف الحلول، فليس العيب أن تتعدد التوجهات والتصورات، ولكن العيب أن تتعدد الخيبات ونحن نتفرج على موتنا البطيء، فلنتنادى إلى كلمة سواء.

نور الدين مفتاح [email protected]

 

عرفت الأيام الأخيرة حركة غير مسبوقة في الوسط الإعلامي، قد تكون من مستوى قوة الضربة التي تلقتها الصحافة الوطنية خلال أزمة كوفيد 19، وهي التي كانت أصلا تترنح من سكرات الأزمة الهيكلية المخيفة. فقد خرجنا من الجائحة منسجمين مع شراستها بحيث لم تستطع جل الصحف أن تعود إلى الأكشاك، وتلك التي عادت فبشكل رمزي، والصحافة الإلكترونية تعاني في صمت، ووحدة الصف التنظيمي التي يجب أن تكون أقوى في مثل هذه الظروف خانتنا لتزيد الطبل رنة، وها نحن هنا وهناك نتباكى على الحال ونطل مرتجفين على المآل.

 

لقد كان البيان الختامي للمؤتمر الاستثنائي للفيدرالية المغربية لناشري الصحف، المنعقد نهاية الأسبوع الماضي مليئا بالعبر، وعلى رأسها أن الحكمة هي مفتاح الحل عندما تدلهمّ الآفاق، فلابد للجميع «من الترفع من أجل حسن الترافع ليس على المكتسبات المالية للصحافة فقط، وهي ضرورية، ولكن على القيم المهنية الأصيلة لأنها هي الضمانة الوحيدة من أجل البقاء».

 

ويزيد البيان، والزيادة تأكيد ليقول: «إن الرأسمال الحقيقي لأي صحافة اليوم وغدا ليس هو الدعم المالي فقط، ولكنه ثقة المجتمع في إعلامه وتنمية رصيد مصداقيته والعض بالنواجد على استقلاليته».

 

ويعزف البيان على نفس الوتر حين يدعو نخبة الناشرين إلى: «أن تكون في مستوى التحديات للقيام بدورها الرقابي والإخباري، وتحمل مسؤوليتها الاجتماعية حتى تكون جزءا من الحل لا جزءا من المشكلة، ولن يتأتى ذلك إلا بركوب حسن النية والتشبث بالمبادئ الفضلى لقطاع يمكن أن يتعايش مع أزمته الاقتصادية برأس مرفوعة، وهو يبحث عن حلول الاستدامة، ولكنه لن يصمد أبدا إذا فرّط في كرامة العاملين فيه، وفي حريّاته وفي خضوعه أولا وأخيرا للقراء الذين يستمد منهم مشروعيته».

 

إن مثل هذا الكلام ليس تحذلقا لغويا، بل إنه الضرورة. إنه حق المجتمع علينا كصحافيين. إنه الطريق إلى رحمة أنفسنا مما نحن فيه، إنه السبيل الوحيد لاستمرار الصحافة في هذا البلد العزيز كصحافة سميت في زمن ما «صاحبة الجلالة» فإذا بها تقارب الحضيض، اللهم إلا من رحم ربّك.

 

ما الذي تستفيده مثلا مقاولة تشغل 100 مواطن وتنتج حبرا على ورق وتوزعه على الأكشاك لتعود به إلى تاجر المرجوعات بسبب هذه الثقة المتلاشية بيننا وبين المجتمع، حتى وإن كانت تحقق توازنا ماليا أو كانت قد عوضت خساراتها الظرفية، أو خصصت لها الحكومة الملايين من الدراهم لإنعاشها؟ ليس الهدف من الصحافة أن تكون علبة بريد نكتب فيها ما يوحى لنا لمن يهمه الأمر، بل إنها مسؤولية جسيمة لا يحس بها إلا من يحاول أن يكون في مستوى تحملها، والغريب أن مثل هذا الكلام ما كان ليقال في بلد له من التاريخ ما كان يستوجب طبيعيا أن تكون عنده صحافة من مستوى بوليتزر!

 

الصحافة في هذا البلد ولدت مناضلة قبل أن تكون مهنية، والآباء حاربوا بالكلمة القوية ضد الاستعمار وواجهوا بعد ذلك الاستبداد، ومعارك «العلم» و«التحرير» و«المكافح» و«المحرر» و«الاتحاد الاشتراكي» و«أنوال» وغيرها سجلت بطولات لا يذكرها الكثيرون ممن يحملون القلم أو الحاسوب اليوم.

 

لقد جرفتنا المقاولة عن المقاومة، مع العلم أن الصحافة بطبيعتها هي مقاومة دائمة كما هي صحافة أمريكا اليوم مع ترامب، أو في فرنسا أو في إسبانيا… ولكن عندما تتحول الصحافة إلى مجرد هاجس وجود ووداعة أو فضائح واختلاقات، فإن ساعتها ستكون آتية لا ريب فيها.

 

أصدر المجلس الوطني للصحافة أمس تقريرا مفزعاً عن أثر كورونا على الصحافة المغربية وعن أزمتها الهيكلية، والأرقام ناطقة حيث خسرنا ما يناهز 24 ملياراً في ثلاثة أشهر، ونخسر 36 ملياراً في السنة بفعل القراءة المجانية وكل مؤشرات المبيعات والإعلانات التجارية تتجه إلى الأسفل. نعم هذا واقع يهدد البلاد بانقراض الصحافة فيها، وكان لابد له من تدخل في مستوى الخطر، وكان أمراً مؤثراً أن يكون القطاع الأول في البلاد الذي تخصص له الدولة تعويضا عن الخسائر كقطاع بعد الجائحة بأكثر في 20 ملياراً هو قطاع الصحافة، هذا لم يكن منتظرا وبالتالي يستحق التصفيق.

 

ولكن، إذا كان رد فعلنا هو أكل هذه الملايير في ظرف الأشهر الثلاثة القادمة، واستجماع كل القوى للمزيد من المطالبة بملايير أخرى دون أن نقوم بما يبررها، فإن المصير سيكون حلقة مفرغة لن نخرج منها إلا بتوسيع مقابر الصحف.

 

يجب أن نستحق دعم المجتمع لصحافته. يجب أن يكون قرار الحياة أو الموت بالنسبة للجرائد والمواقع بيد القراء أكثر مما يجب أن يكون بيد الدعم المطلوب والضروري للصحافة التي يجب أن تكون وريثة لقيم الماضي المجيد الممزوجة بروح المهنية والاستقلالية، والمعتنقة لأحلام الشباب الذين دخلوا المهنة سابحين فوق سحب مثالية، فإذا بالبعض منا يوقظهم على الكوابيس في مستنقع من التسيب والتحلل من كل وازع أخلاقي، والجرأة في الباطل ونشر التفاهة أو إيجاد المبررات لها، واعتناق البوز الخاوي وخيانة أمانة القراء والنصب التحريري والاحتيال المهني.

 

لن تقوم لنا قائمة جميعا إذا استمرينا في هذا الطريق الذي يبدو لي أنه يستفحل يوماً عن يوم، فالسمكة الواحدة في ميداننا تنشر النتانة في الأرجاء، والناس تواقون لصحافة تشبه أحلامهم، فإذا بهم يوما عن يوم يجدون أنفسهم مجرورين إلى الأسفل وهم يتساءلون: أين الجلالة في هذا الذي تعرضون علينا؟ ثم يجيبون: إنا عنكم لمعرضون.

 

إنهم معرضون اليوم، وتماما كما نراهم يواجهون تمييع المجال الحزبي والسياسي بالعزوف، فإنهم يواجهون تمييع المجال الصحافي والإعلامي بالإعراض. فهل غدا أيها الزملاء، عندما نخرج الجريدة ولا يشتريها أحد سيبقى عندنا ماء في الوجه نطلب به المزيد من السيروم لنبقى في غرفة الإنعاش؟ هل هذا قدر محتوم أم اختيار سيء تنسج خيوط جزء منه في الظلام؟

 

المشكلة أيها السادة القراء الأعزاء أن أكبر خصم لهذه الصحافة المأزومة اليوم هم جزء من أبنائها. سامحهم الله، ولكن الذي يحز في النفس أننا عشنا في بلد كانت فيه سنوات الرصاص، ولكن أبدا لم تكن فيه جائحة الحزب الوحيد ولا الصحيفة الوحيدة، كان هناك القمع وكان هناك الشجعان، كانت المطابع تكسر ولكن الأقلام لم تكسر أبداً، كانت الأجساد تعتقل ولكن الأفكار لم تعتقل أبداً، فكيف لهذه المملكة الشريفة ألا تكون لها الصحافة التي تستحق وهي التي حققت مصالحات تاريخية، سياسية وحقوقية، وبالإجمال الأعم، يحترم فيها الدستور ويحكمها القانون؟

 

كيف لهذا الشعب الذي يغلي جزء معتبر منه في منصات التواصل الاجتماعي، والذي يبين يوما عن يوم عن مناعة شديدة القوة ضد التفاهة والتكميم، ألا تكون له صحافة تشبهه وتعطي للمحيط الإقليمي والدولي صورة عن هذه الصحافة ترفع بها الهامات وترفع لها القبعات وتعيش كريمة في بلد كريم؟

 

هل يعقل أن تكون صحافة اليوم أقل عنفوانا من صحافة بلادي في 1959؟ شيء ما ليس على ما يرام وإذا لم ننتبه له، فاقرأ علينا السلام. ولهذا ليس هناك من حل إلا أن تلتقي إرادات الإصلاح في كل المؤسسات المهنية، وداخل كل الإطارات التنظيمية، فيدرالية كانت أو جمعية أو نقابة أو هيئة، لقطع الطريق، برص الصفوف، على من يعتاشون على الانقسامات والتساهلات وأنصاف الحلول، فليس العيب أن تتعدد التوجهات والتصورات، ولكن العيب أن تتعدد الخيبات ونحن نتفرج على موتنا البطيء، فلنتنادى إلى كلمة سواء.

مقالات مرتبطة :

اترك تعليق