ربع عام من العزلة

ربع عام من الدوران في نفس الحجرة أو بين نفس الغرف وعلى نفس السرير أو السداري حتى تعبت الجدران من لحى الرجال غير المشذبة، ومن شعور النساء غير المصففة، ومن اختناق الأطفال، ومن الوعظ الصحي ليل نهار ومن أخبار الموت والإصابات، ومن عالم كنا فيه في كل لحظة نعتقد أنه سينفخ في الصور

نور الدين مفتاح [email protected]

 

كالأطفال ننتظر الخروج من ربع عام من العزلة، ولكننا سنخرج كالعجزة إلى الفضاء العام والكمامات تخفي وشاية الملامح وتعب شهور مرت كالسنين، وأرطال الوهن تثقل أكتاف الناس أجمعين، الفقراء والمرفهين. فهذا الذي جرى لم يكن هينا، إنه حكايتنا الكبرى كجيل، سنرويها كما يروي جنود الحروب مغامراتهم للأحفاد، سنرويها كأبطال وقد عشناها بضعف إنساني شديد. المهم، سنرويها والسلام إذا أتاحت لنا الأيام ذلك، ففي زمن اللايقين هذا قد نعيش ما هو أقسى إلا أنه ليس من الحكمة أن نعيش فزع شيء مازال في حكم المتوقع. لن نختبئ مرة أخرى من الفيروس وأبنائه وحفدته، ولهذا يجب أن تكون يد الدولة ممدودة عبر الوطن بالمشفى والدواء. لن تسمح لنا الظروف بالاستهتار والاستكبار وتصفية الحسابات الصغيرة في قطاعات الحياة، فالرهان أكبر منكم يا جماعة الغفل.

 

لن نؤدي بعد اليوم ثمن الأنانية العمومية المقيتة، الوزير متعارك مع المدير والمدير متعارك مع المندوب والمندوب متعارك مع الطبيب والطبيب يتناول أقراص الاكتئاب والمريض مهمل كجورب متسخ.

 

لن نعود لأن الموت أحيانا أهون من حشر الناس في معازلهم بدون دخل، والحقيقة ليست هي ما يطغى في الإعلام وعلى الشاشات، الحقيقة تجري في شرايين المغرب العميق مجرى الدم الفائر في العروق المتصلبة. أليست هذه هي حقائق الكورونا مغربيا؟ أليست هذه هي أرقام المندوبية السامية للتخطيط حول مخلفات الجائحة من أن 20 ألف عاطل انضموا إلى ملايين العاطلين وأن 44 بالمائة من الأسر فقيرة و42 بالمائة منها تعيش في سكن غير لائق؟ أي سمو هذا في مملكة السياسات الاجتماعية التي تضيع بين القبائل المتناحرة في المؤسسات والأحزاب ومراكز النفوذ واللوبيات والعدسيات وكل القطنيات الفاسدة والطفيليات؟

 

ربع عام من الدوران في نفس الحجرة أو بين نفس الغرف وعلى نفس السرير أو السداري حتى تعبت الجدران من لحى الرجال غير المشذبة، ومن شعور النساء غير المصففة، ومن اختناق الأطفال، ومن الوعظ الصحي ليل نهار ومن أخبار الموت والإصابات، ومن عالم كنا فيه في كل لحظة نعتقد أنه سينفخ في الصور.

 

سنحكي للأحفاد ما جرى كالأبطال، ولكننا لن ننسى أننا عشنا الرعب، وأن سلاحنا كان هو الخوف وأن شكوانا كانت مشروعة من يوم الحقيقة والذي احتجنا فيه الدولة فلم تكن فيها إلا وزارة الداخلية، حيث عادت بنا إلى أم الوزارات، ومصيرنا إلى اليوم بيد العمال والولاة. نحن نحييهم جميعا، من الوزير إلى لمخازني ومن الوالي إلى المقدم، ولكن هؤلاء النساء والرجال الذين يوجدون في الصفوف الأمامية لأكبر الأزمات، لابد وأن يكون لهم وضع آخر، ومكان آخر منسجم مع الشعار الديموقراطي المرفوع. فالديمقراطية لقاح ضد فيروس الشطط والاستبداد.

 

من منكم سمع عن المنتخبين؟ أين عمداء المدن ورؤساء الجهات؟ أين رؤساء الجماعات ورؤساء المجالس الإقليمية والعمالات؟ هل يستساغ أن نشارك في الانتخابات وعندما تقوم القيامة نضع هذه الجمهرة من أصحاب الفخامة والسعادة في دكة القيلولة؟ ويسألونك عن العزوف، قل باااااز!

 

يا.. وطني، هل ترضيك هذه الأوجاع؟ تسعون يوما ونحن نهرب من الأفكار. نهرب من مواجهة أنفسنا، نهرب من التأمل لنسقط في التأمل بعد الهروب، وتتبعنا هواجسنا وكل ما حرصنا لسنوات على دفنه بعناية في مقبرة النفس. لم نكن نريد إيقاظ الموتى فينا لأن في جعبتهم الاكتئاب ونصفنا أصيب به بين أسبوع وآخر، ونصفنا الآخر على وشك. نحن بشر خلقنا في بلد صغير نحاول أن نجد له أكبر موضع في قلوبنا، ونقرأ التاريخ من جوبا الأول، ونقرأ الجغرافية مع الإمبراطورية المرابطية، وننقش الصفحات على الصدور بالمعارك والأمجاد، ونبني ما يصير وطنا في الوجدان وهو أكبر من الحدود والتراب، ونجعل للحب موسيقى ونشيدا ونتغنى بالسؤدد وحماه، ولكن لا يمكن أن تستمر القسمة هكذا.

 

في التسعين يوما التي اعتقلنا فيها احتياطيا بسبب الجائحة، فكر جل الناس في هذه القسمة الضيزى وفي الملكية المشتركة للبلاد وفي هذا الواقع الذي لا يليق. عشرون مليونا من المغاربة هم خارج الدورة الاقتصادية والكرامة الاجتماعية. عشرون مليونا عاشوا الجحيم في الحجر.

 

أليسوا من ورثة الكاهنة وكنزة البربرية والإدريسين الأول والثاني وطارق بن زياد ومولاي علي الشريف؟ ما الذي كان يفعله هؤلاء حين كنا نعتقد بين كتاب وآخر وفيلم وآخر وقناة وأخرى أننا ضجرون؟ ألم يكن ضجرنا بالنسبة للمقصيين مطمحا؟ أليسوا على حق عندما يصدحون بالآلاف بكلمات ليست كالكلمات، وينشدون «في بلادي ظلموني»؟ يا وطني هل ترضيك هذه الفوارق؟

 

ربع عام من العزلة ونستعد للخروج، ولا أعرف لماذا يخالجني إحساس غريب أجاهد لقمعه ولكنه الآن يقفز كلمات تفضح سريرتي، إنني أعتقد أننا سنحن بعد حين لعزلتنا!! سنحن لمرآتنا التي رأينا فيها دواخلنا كما يعكس بيكاسو امرأة جميلة في بورتريهات مكسرة. سنحن، ليس للاعتقال، ولكن سنقارن بين آلام التأمل وتيهان التفاصيل اليومية، وسنحن إلى ساعات ضبطنا عليها إيقاع العيش والعمل، والشيء الوحيد الذي لن نحن إليه هو الإجبار على العزلة. فعندما تكون الخلوة اختيارا، فإنها تصبح تربة خصبة تعطي أكلها كل حين، والروائع لا تخرج إلا من الآلام، كما اللؤلؤ لا يخرج إلى من مغص المحار.

 

سوف نحكي لأحفادنا عما جرى بالتأكيد، ولكننا سنخفي عنهم الكثير من الجروح وسنعفيهم من أرطال من الأحقاد وأطنان من الندوب التي تتركها أظافر الظلم وسوء التدبير وإهدار الفرص. وأما إذا كتب لهذا الشعب أن يلتقي مع حظه في مدار القدر، فآنذاك هم الذين سيكتبون عنا، وسيضعون زماننا في سجل المفاخر كلبنة من لبنات بناء حب الوطن. صحيح أن المستحيل هو المستحيل، ولكن يبدو انقلاب الأوضاع بعيدا وليس من قريب في الشدة إلا الأمل والرجاء.

 

غدا سنعيد اكتشاف المألوف، وسنسمع من جديد أصوات المدن صاخبة، وروائح الأسواق الأسبوعية، وشرفات المقاهي المزدحمة، ومتعة الخروج بلا إذن ولا ورقة، والمشي في الشاطئ، والتسكع، وزحمة الملاهي، وعناق الأحباب، وانتشار المؤمنين في محيط مساجد لم تسع المصلين يوم الجمعة، وخروج الأطفال إلى المدرسة، وإكرام ميت بجنازة لائقة حيث يخفت لهيب الفراق في أحضان العزاء، ولذاذة السفر من أجل السفر، ولحن الغياط وراء عربة مجرورة بالهدايا إلى عروس، واهتزاز الملاعب في الديربي كما تهتز السماء بالرعد، وتموجات الجماهير على أنغام المهرجانات، ومتعة خشخشة الورق في صحيفة بين افتتاحية ومقال، والخروج لمعرض أو مسرحية أو الجلوس إلى كتاب في أرض الله الواسعة.

 

نعم، نعيد اكتشاف البديهيات، تماما كما يكتشف البائع المتجول قيمة عربته المهترئة كمصدر بقاء.

هذه هي الحياة فهل تستحق عناء الحياة؟

مقالات مرتبطة :
تعليقات الزوار
  1. مواطن

    كل الذين يكتبون في القضايا العامة لا يتجاوزون عتبة التشكي المداهن والتوصيف الممالئ وفي أحسن الأحوال بعض الاقتراحات المحتشمة أو بعض الاحتجاجات المنفوشة والمحاججات الفضفاضة، هل هي زغردات في الهواء الطلق أم بيع وشراء واعتياش من حالات الفقراء والمدقعين الذين يقال لهم ها أنتم هنا وهناك وإلى أن نكتب عنكم مرة أخرى ومرارا

اترك تعليق