خطوط خفة الأرجل للطيران

اسألوا الناس يا حكومة خفة الأرجل، هل يعرفون اليوم بوضوح ما هو الممنوع وما هو المسموح؟ واسألوا القطاعات الاقتصادية كيف تقبلوا مشروع إنقاذ الاقتصاد ممثلا في برنامج إقلاع! إنكم تدعون النسيج الاقتصادي الوطني إلى الانخراط في أكبر حملة استدانة من البنوك في تاريخ المغرب، فهل الحل بالقروض حل أم مشكلة اليوم المؤجلة لتصبح كارثة الغد؟

نور الدين مفتاح [email protected]

 

نحمد الله على كل حال، وفي الضائقات نحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه. وعندما نستحضر ما قاله رئيس الحكومة سعد الدين العثماني في مناسبتين عموميتين من أن دخول الحجر الصحي أهون من الخروج منه، فإننا نكون كالمسافر في الطائرة وزاده الخوف، في الإقلاع يقرأ دعاء السفر، وفي النزول يعض على النواجد إلى أن يسمع احتكاك عجلات المطاط مع إسفلت المدرج، فهل هناك قائد طائرة محنك في القمرة؟

 

إن التشدد في الاحترازات والمبالغة في الاحتياطات أمر مفهوم في بلاد تعرف إمكانياتها المتواضعة، وتعرف بالمقابل حجم الدمار الذي يمكن أن يسببه عدم التحكم في انتشار فيروس فتاك، ولكن كلفة إغلاق البلاد وحجر العباد باهظة جدا. لقد كنا بين أمرين أحلاهما مر، الأول أننا تجنبنا مائتين من الوفيات يوميا كما تقول الإحصائيات الرسمية، وما لا تقوله هذه الأرقام أننا قبل الوصول إلى هذه المرحلة كانت منظومتنا الصحية ستسقط، وسنصل إلى قمة المأساة الإنسانية عندما سيخير الإنسان بين التضحية بأمه أو أبيه لأن لا مكان لهما في نفس الوقت في سرير للإنعاش! والمر الثاني هو أن المواطنين اضطروا أن يعيشوا ضغط احتجاز قانوني يكاد اليوم يولد الانفجار. فالنفوس ضاقت، والأبدان وهنت والعقول طارت حتى أصبح لحشاشة القلب أنين. وقد انقطع رزق الملايين وحتى المساعدات على هزالتها زلزلت ميزانية الدولة على الرغم من صندوق التضامن الذي ساهم فيه الجميع تقريبا.

 

لقد اكتشفت الدولة أن أورام الفقر أكثر انتشارا مما كانت تتصور، أو ما كانت تنقله الأعين والتقارير الملونة وقال وزير المالية منكسرا إن ثمن كل يوم من الحجر، الذي يسمونه الصحي وهو غير صحي بالمرة، هو 100 مليار سنتيم، وهو رقم فلكي يصل خلال ثلاثة أشهر إلى 9000 مليار، أي خمس ميزانية الدولة تقريبا.

 

لقد أقلعنا مبكرا بالدعاء، وفي الطائرة كانت المطبات أكثر من لحظات استقرار المسافرين. إنها طائرة المصير التي تحاول الآن أن تنزل في مطار رفع الطوارئ، وإلى حدود اليوم، يبدو أن الفقيه الدكتور العثماني وفيّ لتنبئه بأن الخروج سيكون أصعب من الدخول، لوضع حد لهذا الهروب الجماعي من كوفيد 19.

 

ويؤسفنا أن نسجل بالفعل أن الحزم الذي ميز قيادة الحرب على الجائحة في المغرب بكل تفرعاتها، الأمنية والاقتصادية والإعلامية والسياسية في البداية، مع ما رافقه من وضوح للرؤية وتناغم في اتخاذ القرارات، واحترام للشكليات القانونية ونجاح بصفة عامة في التنفيذ، مع بعض الاستثناءات، يبدو اليوم وقد تحول إلى تراخ يسبح في الضبابية حد إغراق الناس في العموميات، وعدم التحكم في تخفيض علو الطيران وعدم تمكين المسافرين من الشعب المغربي من المعلومات التي تشرح لهم بالضبط ما الذي ينتظرهم؟ ومن سيخرج؟ ومتى؟ وكيف؟ وما الذي عليهم فعله في الفضاء العام؟

 

بل إن عدم الوضوح كان متعانقا مع التناقض بين المسؤولين في نفس الحكومة، ففي الوقت الذي أعلن رئيسها سعد الدين العثماني – بشكل قاطع – عن استمرار ليس الحجر فقط، بل حالة الطوارئ أيضا، جاء بعده وزير المالية السيد بنشعبون ليقول إن على كل الشركات والعاملين في الإدارات أن يعودوا إلى نشاطهم بعد العيد الصغير مباشرة! فلماذا استمرار الطوارئ؟

 

معلوم حسب المنطق، وما نشاهده في دول عديدة أن الرفع التدريجي للحجر يكون بعد الإعلان عن الدخول في مرحلة لاحقة عليه، وآنئذ يتم رفع الطوارئ بشكل تدريجي ومضبوط وواضح ليس في أذهان مهندسيه في الإدارة فحسب، ولكن في أذهان الناس وهذا هو الأهم.

 

إن المواطنين محجورون جسديا، ولكنهم أكثر اتصالا من أي وقت مضى، بسبب التباعد الاجتماعي الذي يترك كافة المساحات للتقارب عبر التلفزيونات والصحف ومواقع التواصل الاجتماعي. والناس يتابعون باهتمام ما يجري في إسبانيا مثلا التي خلفت فيها الجائحة أكثر من 230 ألف مصاب وأكثر من27 ألف وفاة، ورغم ذلك بدأ الإسبان إجراءات تخفيف حجر صحي واضحة المعالم حسب الجهات. وكان المواطنون يعرفون أن من يفوق عمره 65 سنة مثلا يمكن له أن يخرج ما بين العاشرة و 12 صباحا، وما بين الخامسة والسابعة مساء، وأن الشباب يمكن أن يخرجوا في أوقات أخرى. وبعدها أصبح التجوال حرا إلا في مناطق محدودة، ووصل الأمر إلى حدود الترخيص بارتياد الشواطئ لممارسة الرياضة في حالات، وأخذ حمامات شمس في حالات أخرى.

 

وأما فرنسا التي تتابعها النخبة المغربية أكثر من غيرها من البلدان فحدث ولا حرج، الحكومة مساءلة وماكرون في الامتحان كل يوم، والوزراء يقدمون للفرنسيين التفاصيل المملة لكل إجراءاتهم المتعلقة بالرفع التدريجي للحجر في أفق عودة الحياة لتدب في شرايين اقتصاد مشلول ومجتمع مغلول.

 

أما عندنا يا صاحبي، فإن ما يجري أحيانا يقترب من العبث. لقد كان القرار الحكومي المكتوب هو: عودة القطاعات الاقتصادية للعمل إلا ما كان منها معلقا بقرار إداري! والسؤال هو من منع هذه القطاعات من قبل من الاشتغال إذا لم تكن معلقة بقرار رسمي؟ والسؤال الثاني هو لماذا تقرر رفع قرار التعليق على بعض القطاعات بشكل سريالي، ونعطي هنا للتثميل لا الحصر قطاع الصحافة المغبون. فإذا كان تعليقه قد تم بقرار ملتبس لقطاع الاتصال وقعه الوزير الراحل عبيابة، فإن الوزير الشاب عثمان الفردوس أخبرنا أننا لم نعد معلقين في تدوينة على حائطه الفيسبوكي، أردفها بتدوينة أخرى يخبرنا فيها بأن الأكشاك، وما اعتبره مكتبات لبيع الصحف، لم تعد مغلقة بقرار مشترك بينه وبين وزير الداخلية، ودعانا للعودة إلى طبع الصحف مباشرة بعد العيد، دون أن يفطن لشيء بسيط جعل هذه المبادرة أقرب إلى المزحة منها إلى تدبير قطاع حساس، وهو أين هم القراء يا سيدي الذين مازالوا محجورين بقوة القانون؟ وأين الأماكن المفضلة للقراءة وهي المقاهي التي لا تعتبر فقط صالونات بيت للفقراء، بل مكاتب ومكتبات من لا إدارة لهم، يطالعون فيها الصحف مجانا؟ ولماذا لا يتم التشاور والترتيب لعملية هي أعقد من قرار تعليق غامض وتدوينة ليست لها أي حجية قانونية ولا إدارية؟

 

ودون الدخول في التفاصيل اللوجيستيكية والسيكولوجية والاقتصادية المدمرة بالنسبة للمقاولات الصحفية، فيمكن أن نشبه هذا الذي تم الإقدام عليه بمثابة الخروج بقرار أن شركة الخطوط الملكية المغربية يمكن أن تطير مباشرة بعد العيد، ولكن قرار منع الناس من السفر مايزال ساريا!

 

إن نفس الشيء يجري الآن مع أرباب المقاهي والمطاعم الذين يراد لهم أن يفتحوا محلاتهم والحجر مازال ساريا، في الوقت الذي تكسرت شوكة أغلب هذه المحلات التي أصبحت لها وظيفة اجتماعية في مغرب الفقر، أكثر منها وظيفة ترفيهية. وقد رفض هؤلاء أن يفتحوا مقاهيهم على المجهول، كما أن لا مطبعة دارت ولا شاحنة توزيع للصحف تحركت ولا جريدة نزلت إلى الأكشاك أو المكتبات الخاصة بالصحف التي لم نعرف بوجودها في المغرب إلا من تدوينة الوزير.

 

اسألوا الناس يا حكومة خفة الأرجل، هل يعرفون اليوم بوضوح ما هو الممنوع وما هو المسموح؟ واسألوا القطاعات الاقتصادية كيف تقبلوا مشروع إنقاذ الاقتصاد ممثلا في برنامج إقلاع! إنكم تدعون النسيج الاقتصادي الوطني إلى الانخراط في أكبر حملة استدانة من البنوك في تاريخ المغرب، فهل الحل بالقروض حل أم مشكلة اليوم المؤجلة لتصبح كارثة الغد؟

 

أنا الراكب الآن في الطائرة مع إخواني جميعهم أسمع صوت المضيف يقول لنا: سيداتي وسادتي، القائد سعد الدين العثماني يتمنى أن تكونوا قد قضيتم رحلة حجر ممتعة، ويخبركم أننا اقتربنا من مطار نهاية الطوارئ، ويمكن لبعض القطاعات وبعض الركاب أن ينزلوا قبل هبوط الطائرة. وسيتم فتح الباب في السماء بعد قليل، فضعوا جوازاتكم في جيوبكم حتى يتعرفوا على أشلاء من لم يخرج سالما منكم بعد الارتطام بالأرض.

 

قد يكون القائد حسن النية، ولكن طريق جهنم مفروش بحسن النوايا.

 

فاللهم إنا لا نسألك رد القدر ولكن نسألك اللطف فيه.

مقالات مرتبطة :

اترك تعليق